"جاستا": أميركا ضد أميركا!
حمد الكعبي
21-09-2016 09:16 AM
لا شك أن ثمة تناقضاً واضحاً وصريحاً بين «قانون العدالة ضد رعاة الإرهاب» (جاستا) والسبب الرئيس لتشريعه والسعي لإصداره، وبين الأفعال والممارسات التي ارتكبتها أميركا نفسها سواء في العراق إبان احتلاله وتسليمه على طبق من ذهب للحضن الإيراني، أو في التعامل مع القضية السورية، أو حتى خلال خرقها لسيادة العديد من الدول الأخرى بحجة مجابهة الإرهاب والقضاء عليه. ولو قُدّر لهذا القانون أن يرى النور بمنطق الحق والصدق لكانت أميركا هي الأجدر بأن تكون في مقدمة من يستهدفهم، ومن ثمّ فإن كل من سعى لتمرير مقترح هذا القانون يعطي العالم كله مبرراً لإدانة بلاده أميركا نفسها، وهي التي غزت العراق ودمرته بدعاوى اعترفت هي نفسها لاحقاً بأنها كانت زائفة، مع أن هذا الغزو والتدمير أقدمت عليهما حكومة رسمية تقود الدولة العظمى الأولى في العالم، وليس مجرد جريمة اقترفها تنظيم إرهابي أو تشكيل عصابي لا يتعدى أفراداً متطرفين ومنحرفين وخارجين عن القانون. ومثل العراق فعلت أميركا أيضاً في أفغانستان، وفيتنام، وسوريا، وليبيا.. إلى آخر قائمة حروب أميركا وتدخلاتها العسكرية العنيفة في مختلف قارات العالم.
ومن هنا فإن مقترح القانون الذي أقره الكونجرس الأميركي، ستكون أميركا نفسها هي أول من يكتوي به، ولذا فهو قانون موجه ضد أميركا ومصالحها. كما أنه يؤكد أيضاً أوهام الاستعلاء وازدواجية المعايير والكيل بمكيالين المعششة في أذهان بعض ساسة الغرب بصفة عامة، واليمين الأميركي المتطرف بصفة خاصة، لكونه يصدر عن نوع رديء من منطق قانون القوة لا قوة القانون، ويسقط أقنعة التسامح والتعايش السلمي، التي تتلفع وتتقنّع بها أميركا أحياناً حسب المزاج السياسي ووفق مصالحها العالمية. كما أنه أيضاً يخالف روح الشرعية الدولية ويخرق بشكل واضح وفاضح المبادئ الثابتة في القانون الدولي، وخاصة مبدأ المساواة في السيادة بين الدول الذي ينص عليه ميثاق الأمم المتحدة.
هذا علاوة على الإخلال بمبدأ الحصانة السيادية التي تتمتع بها الدول، وهو ما ستكون له انعكاسات سلبية على العلاقات بين الدول، بما فيها الولايات المتحدة، إضافة إلى ما قد يحدثه هذا التشريع من أضرار اقتصادية بالغة، تاركاً في حال اعتماده وتطبيقه آثاراً كارثية على الاقتصاد العالمي، وتردياً كبيراً في العلاقات الدولية، باعتبار أنه سيخل بشكل جسيم بمبادئ دولية راسخة قائمة على أسس المساواة السيادية بين الدول. وسيعود بالسلب على التعاملات الدولية كافة، بما سيحمل في طياته من بواعث الفوضى وعدم الاستقرار، ما يشكل مفترقاً لإعادة النظام الدولي إلى الخلف عقوداً بل قروناً مديدة.
ويبدو أن ثمة من يريد للعالم أن يعيش قصة ابتزاز واستفزاز وفيلم أميركي جديد، لتشكيل ضغوط على الدول التي ترى خروجها عما هو مألوف بالنسبة إليها، وعدم الرجوع إليها، والاعتماد على الذات في تحقيق الأمن والاستقرار، أو استخدامه للتقرب من دول أخرى وإعادة صياغة علاقاتها معها، بما يتناسب مع متطلبات المرحلة الحالية.
وإذا كان المقصود من وراء تشريع القانون المملكة العربية السعودية باعتبار أن بعض منفذي هجمات سبتمبر كانوا من حملة الجنسية السعودية، فالأولى معاقبة الاستخبارات الأميركية التي رعت لديهم النبتة الإرهابية ودربت ودعمت كل أنواع جماعات العنف والتطرف في مرحلة الجهاد الأفغاني، واستخدمتهم كورقة في صراعها مع السوفييت في أفغانستان. وكذلك معاقبة الحاضنة الإيرانية التي وفرت المأوى والتدريب والتسهيلات لكل من «القاعدة» والتنظيمات الإرهابية الأخرى التي ثبتت لاحقاً علاقاتها بالنظام الإيراني.
ولا حاجة طبعاً إلى بيان تعارض هذا القانون مع أبسط أحكام القانون الدولي ومواثيق حقوق الإنسان وقرارات الأمم المتحدة الداعية جميعها إلى ضرورة الالتزام التام بمبدأ سيادة الدولة، كما أنه في ظاهره، يزعم بانتهازية سياسية مقيتة، نصرة المتضررين، وباطنه محاولة رخيصة لتشويه سمعة الدول المتهمة لأغراض سياسية واقتصادية ابتزازية بحتة. كما أن هذا القانون يأتي بعد 15 سنة من كارثة 11 سبتمبر، وهو ما يعني طوق نجاة أو مخرج طوارئ لفشل المحاكمات والقضايا التي رفعت طوال هذه السنين ضد القتلة والمتهمين الحقيقيين في ارتكاب تلك الكارثة!
والأهم من ذلك كله أن أميركا تناست أنه لا يوجد منطق ولا شرع ولا قانون يسمح لها بتعيين نفسها في موقع الحكم وهي الخصم في هذه الدعاوى الاستفزازية المرسلة بناء على أوهام واهنة واهية، باعتبار أن جميع الضحايا من الأميركيين وبالتالي فإن الأحكام معروفة سلفاً والنتيجة معدة مسبقاً، ولا داعي لوجود محاكم أو هيئات محلفين، لأن هذا النوع من التمثيليات السياسية الهابطة لم يعد سماعه يستهوي أحداً سوى شراذم اللوبي الصهيوني العنصري واليمين الإنجيلي المتطرف، الذي يتهاتر الآن على منابر أميركا في حملة انتخابية باهتة، وصل فيها مزاد الإرجاف والإسفاف والسخافة حدوداً خارجة عن كل سيطرة، ومنافية لكل منطق سديد أو عقل رشيد. ولولا ذلك لما سمع أحد مثل هذا اللغو السخيف، وغير المجدي في النهاية.
الاتحاد