ما لا شك فيه أن أميركا في مأزق تاريخي، تبدو أبرز تجلياته في انحسار المنافسة على منصب الرئيس بين شخص مثل دونالد ترامب والسيدة هيلاري كلينتون. فقبل عشر سنوات من الآن لم يكن الحديث عن ترشح ترامب للرئاسة سوى ضرب من العته أو العبث، وقبل عامين كان أقرب إلى مزحة. والسيدة كلينتون خلفها تاريخ مهني تكثر فيه علامات الاستفهام عن التقصير والإخفاق في ملفات حساسة ومهمة، كما أن وضعها الصحي لا يبعث على الاطمئنان كثيراً، وتعرضت لمتاعب صحية جدية الأسبوع الماضي، ما يجعل الانتخابات على «أهم منصب في العالم» عرضة للتقلبات والمفاجآت، بما لذلك من آثار سياسية واقتصادية تشمل العالم بأسره، بحكم الموقع المهيمن لأميركا على قمة النظام العالمي.
في هذا السياق يمكن أن نفهم مشروع قانون «العدالة ضد رعاة الإرهاب» الذي وافق عليه الكونغرس الأميركي بالإجماع يوم الجمعة 9 أيلول (سبتمبر) 2016، أي في خضم الاهتمام السياسي والإعلامي والمجتمعي الذي يرافق في العادة إحياء ذكرى هجمات 11 أيلول 2001 في أميركا. والتصويت بالإجماع ليس أمراً معهوداً في مثل هذا النوع من القضايا الجدلية التي تتعدد فيها الآراء وتتشابك فيها الاعتبارات والمصالح، وهو ما يشكل علامة استفهام أخرى حول المزاج العام لدى الطبقة السياسية الأميركية، والمنحى الغريب الذي يمكن أن يقود إليه. وهنا أيضاً تتجسد، بطريقة ما، الأزمة التي تمر بها أميركا.
تتحول أميركا ببطء، ولكن بإصرار، مع حال الأزمة هذه، نحو تغذية الفوضى في منطقة الشرق الأوسط. ويمثل الاتفاق النووي مع إيران ذروة هذا التحول، إذ كان يعني بوضوح أن واشنطن اختارت أن تمد يدها إلى الطرف الذي يعتبر تصدير الفوضى والعنف في بلدان الشرق الأوسط عقيدة له، ويعمل بدأب على اختراق الدول والمجتمعات من خلال جماعات تابعة تكون وظيفتها شق الكيانات المتماسكة وتفتيتها إلى جماعات وفرق يحارب بعضها بعضاً. وليس ممكناً هنا أن نتجاهل أن صحيفة «نيويورك تايمز» فتحت صفحاتها لوزير الخارجية الإيراني جواد ظريف بعد ثلاثة أيام من تصويت الكونغرس على مشروع القانون المذكور، لينفث سموماً حاقدة ضد المملكة العربية السعودية ويتهمها برعاية الإرهاب، ويبدي حرصاً زائفاً وعبثياً على سلام أميركا وأمن مواطنيها، وهو الذي يهتف زعماء بلاده كل يوم بـ «الموت لأميركا». وكانت الصورة التي رافقت المقالة، تضم العلم السعودي بلونه الأخضر المميز والسيف في أعلاه، مضيفة إليه الكلاشنيكوف رمزاً للإرهاب والقتل، بما يعني أن الصحيفة تؤكد رؤية جواد ظريف وتدعمها بطريقتها.
ويبدو أن تغذية الفوضى أصبحت عقيدة أميركية وطنية عابرة للأحزاب، فإذا كانت وزيرة الخارجية الجمهورية السابقة كوندوليزا رايس هي من بشَّر بـ «الفوضى الخلاقة» قبل أكثر من عقد من الزمان، فإن الرئيس الديموقراطي باراك أوباما هو من وضعها موضع التنفيذ في الواقع السياسي للشرق الأوسط، ويسعى إلى ترسيخها خطوة إثر خطوة. ولا يبدو أن أوباما يعبِّر عن نفسه حقيقة حين يقول إنه سيستخدم سلطاته الرئاسية ليحول دون إقرار هذا القانون، ولا يجب أن نعوِّل كثيراً على وعوده المضطربة التي لا تشير الدلائل إلى رغبة حقيقية لديه في إنفاذها. وحتى في حال استخدام أوباما حق النقض، فليس هناك ما يمنع أن يتم الإيعاز للنواب الديموقراطيين بتأييد القانون مرة ثانية ليصبح نافذاً. وتداخلني الشكوك في أن إعلان أوباما نيته استخدام حق النقض يهدف إلى امتصاص ردود الفعل وإحياء آمال واهنة بالتعويل على أن ينتهي الأمر أميركياً.
لا أدري مدى فائدة الارتكاز إلى مخالفة قانون «العدالة ضد رعاة الإرهاب» لمبادئ القانون الدولي وأصول العلاقات الدولية التي استقرت عبر قرون من الممارسة، لدى مخاطبة أميركا في شأنه، لأنه ليس من الصعب على أي دارس مبتدئ أن يدرك الخرق القانوني الفادح لما هو متعارف عليه، وليس هذا الجانب بغائب عن أذهان الساسة والمشرعين الأميركيين بالطبع. ومع الإقرار بأهمية مواصلة المعركة على المستوى الدولي استناداً إلى الحقائق السابقة، وحشد العالم ضد هذا التوجه غير المسبوق، فإن الساحة الحقيقية للمعركة هي الساحة السياسية لا القانونية، وما سيؤثر فعلياً هو التحرك السياسي المنسق والقوي، وليس الاحتكام إلى قواعد القانون الدولي التي لا توليها واشنطن وأجهزتها الحكومية اهتماماً كبيراً.
نحن أمام نوع من الابتزاز الذي تمارسه أميركا، استناداً إلى منطق الغلبة والهيمنة الذي يجعلها ترى نفسها حاكماً أوحد للكون، وبمقتضى ذلك يحق لمحاكمها أن تفرض ولايتها على أي دولة من دول العالم، وأن تنفذ عليها أحكام المحاكم الأميركية، على رغم الحصانة التي يمنحها القانون الدولي للدول ومنعه خضوع أي دولة لاختصاص محاكم دولة أخرى. وإذا كانت المملكة العربية السعودية هي المعنية بالقانون الأميركي الجائر في المرحلة الحالية، فإنه ليس هناك ما يمنع أن يمتد ذلك إلى دول أخرى في المستقبل القريب أو البعيد. وتكتل الدول العربية والإسلامية ضد هذا القانون المعيب ضرورة قصوى لها، لأن أيّاً منها يمكن أن يجد نفسه اليوم أو غداً في بؤرة الابتزاز الأميركي المستند إلى القوة، بل إن كثيراً من دول العالم من مصلحتها أن تلجم هذا التوجه الأميركي وتعمل على إيقافه.
إن موقف المملكة العربية السعودية ضد الإرهاب واضح وقوي وثابت، والجهود التي بذلتها في مكافحة الإرهاب جهود مشهودة، سواء على المستوى الفكري أو الأمني، وكانت المملكة رائدة في التنسيق الأمني مع دول العالم المختلفة، عربية وأجنبية، من أجل وقف تمدد الإرهاب وتغوله. وتبذل الأجهزة الأمنية والاستخباراتية داخل المملكة جهوداً هائلة من أجل كشف الخلايا الإرهابية وإحباط مخططاتها في المملكة والعالم، و «القاعدة» و «داعش» وكل الجماعات المتطرفة الأخرى تضع المملكة على رأس قائمة أعدائها، واستُهدفت المملكة لأكثر من عقدين بهجمات الجماعات الإرهابية ولا تزال. وكل هذه الحقائق المعروفة لنا، والمعروفة لأميركا أيضاً، تتعرض للتجاهل أو التشويه، لذا فإن جزءاً من معركتنا مع القانون الأميركي يتمثل بتوضيح ذلك للعالم وللرأي العام الأميركي، وهو ما يجب العمل عليه خلال المرحلة المقبلة.
إن الموقف العربي والإسلامي الحازم الذي تبلور خلال الأيام العشرة الماضية على مستوى الدول والمنظمات وعلى مستوى الرأي العام والنخبة السياسية والفكرية هو أمر إيجابي ومبشر، لكنه يجب أن يُترجم إلى تحرك قوي وفاعل على المستوى السياسي والاقتصادي والإعلامي، وأن يبدو واضحاً لمختلف دوائر صناعة القرار الأميركي أن المواجهة ستكون جماعية، وأن التحركات الأميركية لن تكون من دون ثمن. وفي ما يلزم استثمار العلاقات الطيبة مع أميركا في هذا المسعى، فإن التلويح بوسائل الضغط يجب أن يكون حاضراً. والدول العربية والإسلامية تملك كثيراً من أوراق القوة والتأثير التي يمكن أن تغير المعادلة الحالية، وتُجبر واشنطن على مراجعة توجهاتها، فالأميركيون يعرفون أكثر من غيرهم ما يمكن أن يلحق بهم من خسائر إذا أتيح للجهود العربية والإسلامية أن تُحشد في اتجاهها الصحيح. ومن المؤكد أن أي خطوات عربية وإسلامية مُنسَّقة في هذا الاتجاه ستغير الأوضاع، وتجعل أميركا تعيد حساباتها. وفي هذا الطريق يجب أن نمضي.
عن صحيفة الحياة