ونحن على اعتاب موسم قطاف وعصر الزيتون يجول بخاطري وأنا أتجول في عمان المثل الشعبي الذي كان يكرره الأهل عندما يتبارى الناس في تعداد محاسنهم وفضائلهم دون أي اعتبار لكونهم مثل بقية الناس يصيبون ويخطئون، يحسنون ويسيئون. وكيف أسهمت الدعاية وفنونها في تشويه قيمنا وأحكامنا ودفعنا الى اتخاذ قرارات قد نندم عليها.
في ثقافتنا يعتقد الكثيرون أن الدعاية مسلية إلا أنها تحمل في طياتها الكثير من المبالغة والتضليل. وهي متأصلة في الثقافة العربية حيث كان الشعراء في الجاهلية يمجدون قبائلهم وشيوخهم ويفخرون بنسبهم وانتماءاتهم، وقد كان العديد منهم يقومون بأدوار شبيهة بما تقوم به الوكالات الدعائية هذه الايام، فما إن يحلّوا على منازل قبيلة أو بيت من بيوت العرب حتى يتسابق الجميع على إكرامهم وإرضائهم في العطايا والمنح والشرهات طمعا في أن يقولوا شعرا يمجد المضيف وقبيلته وحكمته ويذكّر العرب بخصاله الحميدة وينشرها بين القبائل.
لذا فقد حرص العديد من الشيوخ والخلفاء والأمراء والحكام على تقريب الشعراء من بلاطهم ودواوينهم وعملوا على استثمار مواهبهم في اظهار ونشر الصور التي تبعث على رضا الناس وإعجابهم أو خلق الصورة التي تعلي مكانة واحترام الآخرين لمن تتناوله القصائد. فقد أبدع شعراء الجاهلية في وصف وتخليد صور الشجاعة والكرم والحكمة والنبل والشهامة للعديد من الشخصيات والقبائل التي تجاوزت سمعتها بفضل شعرهم حدود الزمان والمكان. وعلى درب شعراء الجاهلية سار المتنبي والبحتري وأبو تمام والجواهري وعبدالرزاق عبدالواحد والمئات من الشعراء الذين دخلوا في سباق لتسجيل أفضل أوصاف المدح والفخر والشجاعة وحسن الخصال لممدوحيهم.
اليوم وبعد تطور تكنولوجيا الاتصال أصبحنا في مرمى وابل من حملات الدعاية والإعلان التي لم تترك جانبا من جوانب حياتنا أو المنتجات والخدمات إلا وقدمتها لنا. فالدعاية جزء مهم من أعمال أي منشأة ودولة ومرفق، ويجب أن تخصص لها موازنات ويقوم عليها خبراء وتسترشد بنتائج الأبحاث والدراسات وتتسابق المؤسسات التي احترفت الدعاية على تقديم عروضها التسويقية للمنتجات والمؤسسات والأشخاص مستخدمة أفضل الأساليب وأكثرها تطورا. في شوارع مدننا هناك دعاية للأرز واخرى للدجاج وثالثة للحليب. دعاية للإذاعات الجديدة ولأجهزة الموبايل وأنواعها، كما للمطاعم والرحلات والأماكن السياحية. بعض شوارع مدننا أصبحت متخصصة بالأطعمة والحلويات وبعض الأسر ربطت نفسها بمنتج غذائي أو نوع من السلع وأصبحت العائلة اسما تجاريا يؤهل أعضاء منها أن يدخلوا السوق مستفيدين من اسم عائلاتهم.
في الظروف العادية والسنوات التي لا يكون فيها انتخابات يبلغ حجم السوق الإعلاني في الأردن قرابة 200 مليون دولار وفي مواسم الانتخابات يرتفع الإنفاق على الدعاية بما يقارب الـ 50 % من الإنفاق السنوي أو يزيد. وتتوجه الحملات الدعائية إلى محاولة تقديم صورة إيجابية للمرشحين تشجع الناخبين المحتملين على تقبلهم وربط صورهم ببعض الأعمال والانتماءات والمواقف التي ترضي جمهور الناخبين وتستميلهم.
من المؤسف أن لا رقابة صحفية على الدعاية الانتخابية، فالكل يظهر نفسه بطلا شعبيا ولا أحد يقول إن زيته عكر. الجميع يسوق للناخبين صورة وردية وينتج تاريخا مزيفا لأعماله وإنجازاته. أحد المرشحين ممن لا همّ له غير رعاية تعهدات أسرته يعد الناخبين بمزيد من العدالة وأنه سيبقى يدافع عن حقوق الأقل حظا.
العشرات ممن نرى صورهم في الشوارع أضافوا إلى أسمائهم ألقابا وصفات وأنتجوا قصصا لم نسمع بها قبل موسم الانتخابات. البعض يصف نفسه ومسيرته واهتماماته وصفا يتنافى مع الواقع. في غياب الصحافة الاستقصائية وتغلغل الصحافة الانتهازية التي تفتح صفحاتها الورقية والالكترونية لمن يدفع أكثر يصعب على المتلقي التدقيق فيما يقال وقد يقع الآلاف ضحية للدعاية ويتمكن أصحاب رؤوس الأموال من شراء واستمالة الناخبين من خلال فبركات دعائية لا يوجد من يفندها أو يدحضها.
الغد.