أطباء ام تجار ؟!
د بهاء الدين شبانه التميمي
16-09-2016 04:33 PM
ما أعظمها من مهنة ، وما اجلها من رسالة، الطب! علاج البشر وانقاذ حياتهم وتخفيف آلامهم، وهذا متمثل في قسم أبوقراط الذي ما زال يستخدم في كليات الطب في العالم عند تخريج طلاب الطب ببذل قصارى الجهد من اجل المرضى ومراعاة الأخلاق والقيم النبيلة في علاجهم .
في بريطانيا عبر فترات طويلة كان تعليم الطب مقتصرا على الطبقة البرجوازية لعدة أسباب منها عظم هذه المهنة والدرجة الاجتماعية العالية للطبيب ناهيك عن تخوف من الترزق بالطب! بحيث ان الطبيب الذي يأتي من عائلة غنية وليس بحاجة الى المال اكثر حرصا على عدم التكسب من علاج المريض مقارنةً بالطبيب الفقير المحتاج من العامة!
وقد تلاشت هذه الفلسفة وانفتح التعليم الطبي لكل طبقات المجتمع مع الوقت بما فيهم النساء والذي كان ممنوعاً عليهم ايضا .
يقول ابو الطب أبقراط اليوناني المتوفي عام ٣٧٠ قبل الميلاد كما نقل عنه الطبيب المصري علي بن رضوان المتوفي ١٠٦١ م ان هناك سبعة خصال للطبيب ويذكر منها : أن تكون رغبته في ابراء المرضى أكثر من رغبته فيما يلتمسه من الأجر ورغبته في علاج الفقراء أكثر من رغبته في علاج الأغنياء!
وقد حمل العرب والمسلمون مشعل الطب من اليونان وقدروا الطبيب ودوره فقال الشافعي إِنَّمَا الْعِلْمُ عِلْمَانِ: عِلْمُ الدِّينِ، وَعِلْمُ الدُّنْيَا، فَالْعِلْمُ الَّذِي لِلدِّينِ هُوَ: الْفِقْهُ، وَالْعِلْمُ الَّذِي لِلدُّنْيَا هُوَ: الطِّبُّ.
وقد نصح الشافعي الناس في اختيار بلدة السكن حسب وجود الطبيب الماهر في تلك البلدة، فقال : لا تَسْكُنَنَّ بَلَدًا لا يَكُونُ فِيهِ عَالِمٌ يُفْتِيكَ عَنْ دِينِكَ، وَلا طَبِيبٌ يُنْبِئُكَ عَنْ أَمْرِ بَدَنِكَ!
وعند نشوء المستشفيات في الدولة الأموية لأول مرة في التاريخ ومن ثم في الدولة العباسية كانت المستشفيات قلاع طبية وتعليمية شامخة وكانت الدولة تتكفل بالانفاق عليه وكان المريض يأكل من الطعام واللحوم ما يكفيه لبناء جسده وكان المستشفى يتكفل حتى باعطاءه ملابس مجانية عند خروجه من المستشفى وكان لكل مريض غرفة، وكان العلاج النفسي مهم جدا حتى في حساسية اخبار المريض بمرضه وكان ملحق بكثير من المستشفيات حدائق ومزارع للأعشاب الطبية ضمن علومهم الصيدلانية في تلك الأيام ، وقد كان بعض الأوروبيين ممن ضَل سبيله في دمشق يذهب لإحدى المستشفيات لياكل ويشرب مجانا لثلاثة ايام رغم علم المستشفيات بعدم وجود مرض عنده! وقد استحدث الفرنسيون عند إنشائهم المستشفيات بعد عدة مئات من السنين ان يضعوا اكثر من مريض في نفس الغرفة كما يقول المؤرخون .
السؤال المهم هنا كيف صارت ممارسة مهنة الطب في زمننا الحالي من ناحية علاقة المال والتكسب من المهنة مقارنة في دورها الأساسي الذي أنشئت من اجله المهنة؟!
النظام الرأسمالي الغربي ساهم مساهمة مهمة في تأسيس القيم الجديدة للطب والتي اعتمدت على أفكار أبقراط والقيم الاخلاقية العامة في الطب ، ولكن في نفس الوقت تطورت مهنة الطب لوجستيا لتصبح وظيفة تكسب وترزق مرتبط ارتباط مباشر بعدد المرضى وشدة مرضهم!
وبما ان الطبابة الجيدة تحولت الى القطاع الخاص بشكل كبير في كل دول العالم ، تعرضت المهنة الى اقسى مراحلها الاخلاقية في التاريخ رغم التطور العلمي المذهل في القرن الماضي ! تطور العلم بصورة فلكية وانحدرت المهنة اخلاقيا للاسف بنفس تسارع تطورها المادي!
فتحول كثير من الأطباء بفعل السوق المفتوح الى تجار بكل ما تعنيه الكلمة من معنى ! يكون التركيز الأساسي على المريض ليس الا كيف نعصره او نعصر تأمينه الطبي مالياً باقصى درجة ،فيتم احيانا عمل فحوصات غير ضرورية او حتى عمليات ليست ضرورية قد تؤثر على حياة المريض!
لا زلت اذكر أثناء دراستي للطب في الاردن كيف ان طبيبا عاما كان قد اشترى جهاز امواج صوتية جديد وكان يستخدم الجهاز لكل مريض يراه ويزيد على الفاتورة ! حتى ان احدى المريضات قالت لي انه عمل فحص بالجهاز لجمجمة الرأس وراء الاذن ليتأكد من وجود التهاب في العظم ام لا! طبعا هذا دجلٌ طبي واضح ووسيلة رسمية لسرقة أموال الناس، فهل يسمى هذا الاستاذ الطبيب فلان او نسميه التاجر الطبيب فلان!؟
غير ان التجارة بالطب مقارنة بالتجارات الاخرى تحمل اثارا سيئة لتلاعبها بصحة وحياة البشر والسمسرة على ارواحهم .
اذكر ايضا في احدى العيادات في الاردن كيف ان سواق تكسي جاء بمريض اجنبي لإحدى العيادات وعلا صوته مع الدكتور جدالا حول ثمن السمسرة على المريض والمريض يتساءل عما يحدث؟
سواقي التكاسي لهم علاقات واسعة مع أطباء وعياداتهم وياخذون نسبة معينة من كل مريض يأتون به حتى وان لم يحتاج لخدمات ذلك الطبيب! ولبعض الأطباء سمسرة واضحة مع شركات أدوية واجهزة طبية ومستشفيات وصيدليات وامور لا حصر لها!
في دول عربية كثيرة الأمر يستشري الامر اكثر من الاردن ففي لبنان شرح لي زميلي كيف احد أطباء القلب المشهورين في مستشفى جامعي مشهور كان يعمل قسطرة تشخيصية للمريض ويكتشف ترسبات بسيطة غير انه يوهم المريض انه فتح شرايينه وسلك اموره مما له أهداف مالية بحته فيما بعد ! وفي الهند تطورت تجارة الطب والسمسرة مبلغا عظيما بحيث ان الطبيب العام احيانا يطلب الفلوس مقدماً من الطبيب الاختصاصي حتى ممكن قبل إرسال المريض بنِسَب ٥٠-٧٠٪ من اجرة الاختصاصي !
وأثناء ممارستي الطب في الولايات المتحدة منذ ١٨ عاما رأيت تجارة الطب ايضا عبور السنوات رغم قوة القانون وشدته في معاقبة المخالفين !
رأيت أطباء عامين في القطاع الخاص قد جعلوا عياداتهم مراكز فحوصات بدون اختصاصيين لقراءة الفحوصات تدر المال باستمرار والمريض ينظر اليه كبقرة حلوب تدخل سمينة مليئة وتخرج وقد نفذ الحليب وانسلخ اللحم! او ان المريض ينظر اليه كجهاز بطاقة صراف الي ! وقد رأيت أطباء عامين غير مؤهلين يتفاخرون بسيارات الرولز رايس او الفراري التي يملكونها وبعض سيارتهم تملك قيمة بربع مليون دولار!؟
احد الأطباء الهنود الذي تم القبض عليه قبل سنوات من قبل مكتب التحقيقات الفيدرالي في هيوستن اتهم بإعطاء الاف وصفات الأدوية المسكنة المخدرة بالاضافة الى التدليس على شركات التأمين وقد وجدوا مئات الاف الدولارات النقدية مخبأة في بيته! لا ادرى هل هذا طبيب ام تاجر نصاب؟
وقبل شهور تم القبض على طبيب لبناني مشهور في ديترويت في أمراض السرطان عالج الاف الناس بتشخيصات سرطانية مفبركة من اجل إعطاء أدوية كيماوية وبالتالي استمرار تدفق المال!
وطبيب أمريكي اخر جراح أوعية دموية كان يضع شبكات معدنية في تضييقات في شرايين الفخذ بنسبة ٢٠٪ فقط وهذا سوء ممارسة مهنة وقد يدخل السجون الامريكية وقد تم بالفعل سجن عدة أطباء قلب امريكيين في الولايات المتحدة والحجز على أملاكهم بعد ثبوت وضعهم لشبكات في شرايين القلب بنسبة تضييق ٥٠٪ وأقل دون حاجة طبية للشبكات!
وعشرات القصص في امريكا وفي كل بلاد العالم من كل جنس ولون ودين والتي تبين انه اذا انطفأت شعلة الضمير واندثرت مخافة الله سقط كل شيء ! والطبيب إنسان وهو معرض بحكم أهميته وتأثيره كطبيب وسماع الناس له الى شهوة حب المال والتي اذا انعكست على نظرته للمريض ، انقلب الطبيب حينها الى سارق ونصاب وسيبذل كل وسعه من اجل جمع الفلوس بكل انواع الحيل والأفكار!
ومن الِحيل التي تستخدم من قبل البعض في بلادنا هو التداوي بالأعشاب او بالأغذية القرانية او ما يسمى الغذاء الميزان! وهو استخدام للقران والآيات القرانية في غير محله دون وجود دراسات وابحاث واضحة من اجل جمع المال واستغلال جهل العامة بالطب في سحب فلوسهم باسم معرفة الدين ! والنَّاس يهللون ويطبلون لهذا الفتح القرآني العظيم الذي ما هو الا اُسلوب جديد من أساليب النصب والخداع المبطن ! فهدا الفتح العظيم لم يكتشفه افضل أطباء الاسلام وفقهاء القران كابن الهيثم والرازي وابن سينا والزهراوي وفجأة نزل بدون أبحاث عصرية ودقيقة حسب أصول البحث العلمي ليجعل من أطباء تجاراً ومروجي أغذية وأعشاب على مستوى العالم العربي يبيعونها بمقابل مادي!
ومن الحيل الاخرى استخدام علاجات مازالت طور البحث والتدقيق والتمحيص في علاج أمراض مختلفة وإيهام المريض بنجاعة العلاج دون اخباره ان هذا العلاج هو علاج بحثي وتجريبي وليس علاج متأكد منه! ومن هذه العلاجات الحديثة التجريبية العلاج بالخلايا الجذعية ، وهذا اكبر تدليس يشترك فيه بعض الأطباء ممن استعجل الشهرة والمال، دون تبيان ان هذا العلاج للمرضى علاج تجريبي ولم يثبت اثره وفعاليته بعد على مجموعات كبيرة من المرضى ضمن تجارب سريرة معروفة
وحيل كثيرة لا حصر لها ، ليس لها نهاية لان جشع الانسان قد لا يحده حد!
ومن عجائب الأمور هو رؤية الأطباء يتعاركون متنافسين في الاستحواذ على المرضى وفلوسهم بصورة سيئة وكأنهم تجار يتنافسون فيما بينهم! بل على العكس يلجأون الى أساليب شرسة ومرعبة في التعامل مع بعضهم !
حتى وصل التنافس الطبي والحدية بين فريقين من الأطباء الهنود هنا في قرية صغيرة في تكساس الى ان احدهم بعث شخصا ليقتل غريمه الهندي الاخرى اثناء زيارته لبلده الأصلي في الهند لولا تدخل السلطات الامريكية!
قال لي طبيب يخشى الله في الولايات المتحدة وهو طبيب في أمراض القلب والشرايين انه اذا عمل فحص قسطرة للشرايين ورأى تضيقا شديدا للشرايين في عدة شرايين فأمامه حلان! اما ان يضع عدة دعامات( شبكات) في نفس الوقت ويكسب الاف الدولارات واما ان ينتهي من الحالة وينادي جراح القلب ويناقش معه أهلية المريض لعملية قلب مفتوح يعملها الجراح قد تكون افضل للمريض على المدى الطويل ! وفي تلك اللحظة لا يريد ان يقرر كرد فعلي سريع قد يغلب عليه حظ النفس المالي ولكن يريد قرارا اكثر تعقلا لا يرتبط بمدخوله المادي من العملية! وهذا الطبيب لو ان الأطباء اتخذوا منهجه ديدنا لهم في قراراتهم وتصرفاتهم لكان لهم وللمرضى كل الخير وتكرست رسالة الطبيب السامية في معالجة المريض دون مؤثرات حظ الطبيب من الشهرة او من المال!
وفي هذا السياق من المهم تبيان عدة أمور منها انني لا أعمم على ان الأطباء هم تجار ولكن مجموعة صغيرة منهم اتخذت من هذه المهنة السامية الرفيعة مدخلا للثراء السريع! ولا ضير في الثراء من الطبابة ان كان معقولا وباسس سليمة وعلى جميع الأطباء ان يكونوا في حالة مادية جيدة فكيف تطلب من طبيب فقير مدقع ان يبدع في علاجه ودوائه؟ وكيف نطلب من طبيب فقير محتاج ان يقتصد في إرهاق المريض باتعابه ؟
وايضاً من المهم تبيان ان هناك مشاكل في المجتمع وعند المرضى، فبعضهم يعتقد ان الطبيب يجب ان يعالج بالمجان او ان الأطباء كلهم جزارون ولا يحرصون على المريض وان كل الأدوية قاتلة وان اي فحص يطلبه الطبيب لا يريد به الا جمع الفلوس ، وبعض المرضى لا يثق في قرار الطبيب ويذهب لخمسة أطباء اخرين ليتأكد من صحة التشخيص والعلاج ، وبعض المرضى يمكن ان يدخن عدة علب دخان يوميا ويدفع عشرات الدنانير يحرقها بالدخان بينما لا يريد ان يدفع عدة دنانير لرؤية الطبيب الذي سيعالجه! ويلقى بمحاضرة عن اخلاق مهنة الطب عند باب العيادة ! ولكنه ان نظر لحاله وتعقل قد تشفق نفسه على حاله! وقد يدفع البعض الف دينار لرحلة سياحية او رحلة عمرة غير ضرورية او يدفع نقوط عرس عشرات الدنانير او يذبح خرفانا في الأعياد بينما يسترخص عدة مئات من الدنانير لأجرة عملية طبية مهمة ! ويقاتل من اجل ذلك ! ولعل اعتقاد بعض الناس ان الطب يجب ان يكون مجانيا هو الذي يدفعهم لهذا ! وبعض الناس اختلط عليهم الامر فيعتقدون ان اي طبيب له قدرات كعيسى عليه السلام في احياء الموتى وإبراء الأكْمَه والأبرص وشفاء المرضى دون مضاعفات جانبية! كيف ذلك وما الأطباء الا بشر لهم قدرات معينة ولا يوجد علاج في هذا الزمن ولا عملية الا ولها مضاعفات محتملة ! وان حدثت هذه المضاعفات يتم إلقاء التهم للطبيب بانه جزار ونصاب وحرامي.....
وعودة لتجارة الطب ولكن من غير الأطباء من مدعي الطب والجريمة هنا اعظم فالطبيب مرخص لممارسة الطب بينما تعدى اخرون على المهنة وتقاضوا أجراً مقابل رأي او خلطة سحرية او عشبة من ارض قاحلة وهم بذلك يقتاتون على اوجاع المرضى وهمومهم وآلامهم واحباطاتهم وجهل الناس !
وفي النهاية، وازع الضمير ومخافة الله هو من يوقف هذا الحلقة المفرغة وهذه التصرفات المشينة التي لا تليق بأشرف مهنة، وفي نفس الوقت علينا ان نعترف ان النظام الطبي العالمي الحالي المبني على أسس اقتصادية ورأسمالية معروفة جعل من الأطباء مهنيين فعالين! وهذه الفعالية في رؤية عدد اكبر من المرضى بتكلفة اقل وربح اكبر ، كما جعل من المستشفيات أماكن فعالة وقائمة بذاتها بناءً على علاج المريض في اقصر وقت ممكن وكلما قصر الوقت كلما انعكس ذلك إيجابيا على موقع الطبيب المعالج وفرحت شركات التأمين وسعد المستشفى بفرح شركات التأمين ! وهكذا
تسألون عن الحل، اعتقده زيادة المسؤولية الشخصية فكل إنسان مسؤول عن عمله ، ويوم القيامة يحاسب هو بذاته دون تدخل الأهل والاصحاب، والعشيرة، وايضاً المسؤولية جماعية بقوانين صارمة تراقب وتحاسب وايضاً في تغييرات مجتمعية مهمة في رفع مستوى الأخلاق بشكل عام ، فالعرب يعيشون أزمة اخلاق قبل ان يعيشوا أزمات اقتصادية او سياسية واذا تم حل هذه الأزمة انحلت كل الأزمات الاخرى!