إدارة الدولة بالولائم بلال حسن التل غير مرة قلنا أن الاستسهال وتتفيه الأشياء، بل والمعاني الكبيرة صارت عادة أردنية ذميمة ومذمومة. ولم يعد الأمر مقتصراً على أن نشاهد دكاناً قد لا تتجاوز مساحته المترين ومع ذلك يصر صاحبه على أن يطلق عليه اسم مول.
بعد أن تجاوزت الدكاكين في بلادنا حتى مسمى السوبرماركت، مع اعتراضنا من حيث المبدأ على إطلاق التسميات الأجنبية على متاجرنا وأسواقنا. ولم يتوقف تتفيه الأشياء والمعاني في بلدنا على الجوانب الاقتصادية والمظهرية، بل امتد ليشمل كل جوانب الحياة والمعاني الكبرى. فلم يعد مستغرباً في بلدنا أن تتم واسطة لتعيين أحدهم كاتباً في صحيفة، رغم أنه قد لا يتقن كتابة جملة واحدة دون أخطاء لغوية.
سواء على صعيد الإملاء أو النحو، بل إننا نكاد نكون البلد الوحيد في العالم الذي تجري فيه الواسطة لتوظيف الابن أو الأخ وزيراً أو عيناً وقد جرى ذلك بالفعل في بلدنا. بعد ان صار الموقع الوزاري والبرلماني مجرد وظيفة عادية في ذهن وممارسة الأردنيين، بفضل ثقافة التتفيه والاستسهال المسيطرة عليهم.
والتي شملت من بين ما شملته مفهوم غداء أو عشاء العمل. ففي كل بلاد الدنيا المتقدمة يتداعى أهل الاختصاص من سياسيين واقتصاديين وغيرهم إلى غداء أو عشاء عمل يحضره عدد محدود من أهل الاختصاص، أصحاب العلاقة بالموضوع الذي سيبحث، وفق جدول محدد ومحاور واضحة ومحددة أيضاً.
وغالباً ما يتم الوصول إلى الاتفاقيات الكبرى والقرارات الهامة على هذه الموائد ثم تأخذ طريقها إلى الإعلان من خلال اجتماع رسمي أو مؤتمر صحفي أو أية وسيلة من وسائل الإعلان الراقية والمتفق عليها.
وبذلك يكون غداء أو عشاء العمل فرصة للإنجاز الحقيقي في جو إنساني نظيف يضيف إلى علاقات العمل دفئاً وحميمية. غير أننا في الأردن واستمراراً لسياسية تتفيه الأشياء والمعاني والممارسات حولنا الأمر إلى نوع من السفه الذي صارت ولائمنا تجسده. وهو سفه لابد من التصدي له.
لأنه يشكل أولاً اعتداء على منظومة قيمنا وعاداتنا الاجتماعية. ولأنه ثانياً يرسخ قيم النفاق والرياء الاجتماعي. ولأنه ثالثاً يشكل احتيالاً على طرق وقنوات التواصل الرسمي بين المسؤول وشرائح المجتمع المختلفة. ولأنه رابعاً يشكل عودة ببلادنا إلى عصر الجندرمه والفرسان الذين كانوا يشكلون كارثة لمواشي الفلاحين ودواجنهم عندما كان يضطر هؤلاء الفلاحون لذبحها إكراماً للجندرما والفرسان خوفاً من بطشهم وجبروتهم.
مناسبة هذا الحديث ما صرنا نسمعه من أخبار عن ولائم كبرى تقام نفاقاً لهذا المسؤول أو ذاك وتقرب منه حتى أن بعض هؤلاء المسؤولين صار من النادر أن يتناول طعامه في منزله، بل لقد صار تناوله لوجبة في منزله مدعاة للاستغراب من أهل بيته ومن معارفه، وهي ولائم لا تقام حباً به واحتراماً له ولكن نفاقاً وتقرباً لموقعه الرسمي، بدليل أن الكثير من المسؤولين الذين كانت تقام على شرفهم الولائم والمآدب أثناء توليهم للمواقع الرسمية لم يعد أحد يكترث بهم عندما خرجوا من مواقعهم ومناصبهم.
إننا ندعو إلى التصدي لظاهرة الولائم التي تقام تقرباً للمسؤولين لأسباب كثيرة في طليعتها أن هذه الولائم تستهدف بالدرجة الأولى تحقيق مكاسب من هذا المسؤول عبر الموقع الذي يشغله، لذلك فإنها تشكل نوعاً من أنواع الرشوة المستترة، التي تفسد المسؤول وتفسد معه الإدارة العامة في بلادنا. والتي صارت الولائم من المؤثرات الرئيسية فيها، فهل دخلنا في عهد إدارة الدولة عبر الولائم؟؟ خاصة وأن إقامة الولائم صارت وسيلة رئيسية في كل الانتخابات التي تجري في بلدنا سواء كانت هذه الانتخابات نيابية أو بلدية أو نقابية أو حتى على مستوى الجمعيات. كما صارت الولائم وسيلة للتقرب من المسؤول والتأثير على قراراته لجهة التعيينات أو الترفيعات أو التنقلات أو إحالة العطاءات إلى ما هنالك من قرارات تتعلق بإدارة الدولة، وهكذا صارت الولائم مؤثراً رئيساً على متخذ القرار الإداري والسياسي في بلدنا على قاعدة «اطعم الفم تستحي العين».
وإذا كانت شبهة الرشوة وإفساد الإدارة من الأسباب التي تدعو للتصدي لظاهرة الولائم للمسؤولين، فإن هناك أسباباً أخرى لهذه الدعوة. تتمثل في الحفاظ على هيبة المسؤول وكرامة الموقع الذي يشغله، فمن الملاحظ أن هناك خفة في الاستجابة لهذه الدعوات، جعلت مسؤولين كباراً يلبون دعوات من أناس نكرات حتى في محيطهم الضيق. وهؤلاء النكرات لم يجدوا وسيلة للإعلان عن أنفسهم إلا عبر إقامة ولائم يدعى إليها المسؤول الكبير، الذي يستخف بنفسه وبموقعه عندما يستجيب لدعوة عابر سبيل بحجة بناء الشعبية وقد كثر هؤلاء في بلدنا.
سبب آخر من أسباب الدعوة للتصدي لظاهرة الولائم الكبرى، التي تقام نفاقاً للمسؤولين هو أن هذه الولائم يصاحبها الكثير من السفه، سواء من حيث الحجم، أو من حيث الإنفاق، أو من حيث سوية الحضور الذي يشكل في غالبيته كمبارس لاستكمال الصورة.
كما يصحبها الكثيرمن الصخب، وإذا كان الفنانون الكبار من أمثال صباح فخري يحترمون أنفسهم فيرفضون الغناء، إذا كان الحضور يتناول طعامه، فإننا نربأ بمسؤول أردني أن يتحدث في شؤون البلاد والعباد، في حين يتناول المحيطون به طعامهم وشرابهم. تماماً كما يجري في الكباريهات الساقطة كما تصورها الأفلام المصرية الرديئة.
ومن الأسباب التي نعتقد أنها من موجبات الدعوة لوقف ولائم النفاق هذه أنها صارت مصدراً للإشاعات التي توتر أجواء البلد المتوترة أصلاً بالإضافة إلى أنها موائد تكثر فيها النميمة واغتيال الشخصية. بعد أن لم يعد ينشغل جل المسؤولين في بلدنا والمتصدين للحياة العامة بالقضايا الكبرى المتعلقة بالتحرير القومي والوطني وبسائر القضايا القومية وصار شغلهم الشاغل تحقيق المكاسب الشخصية من الحصول على إعفاء جمركي أو تعيين مراسل إلى غير ذلك من التفاهات.
إننا نرى في استشراء ظاهرة الولائم الكبرى التي تقام نفاقاً للمسؤولين والمتنفذين دليل عجز لدى المسؤول الذي يلجأ إلى الولائم للتواصل مع الناس، ودليلاً على غياب قنوات التواصل الحقيقي بين المسؤول والناس، وخاصة قوى المجتمع المدني الحية وفي طليعة هذه القنوات وسائل الإعلام التي صارت عاجزة عن التحول إلى قنوات حوار حقيقي بين المسؤول والمواطن وكذلك عجزها عن بناء رأي عام حول قضايا الوطن، بعد أن صار يتولى إدارة جل هذه الوسائل أناس لا همّ لهم إلا حضور الولائم وتلبية الدعوات، كما أن هذه الولائم مؤشر على استمرار تهميش مؤسسات المجتمع المدني من أحزاب وجمعيات وجماعات والقفز على دورها في خلق حوار وطني والتمهيد لاتخاذ القرارات الكبرى وهذا كله مؤشر خراب يمهد له نفاق اجتماعي يزكم الأنوف بنتنه.
اللواء .