فضيحة جماعة “كلنا شارلي إيبدو”
منير شفيق
10-09-2016 11:22 PM
“شارلي إيبدو” جريدة فرنسية نقدية تعتمد الرسومات الكاريكاتورية باعتبارها لغتها الرئيسة لمخاطبة جمهورها. وإنجاح وضعها الإعلامي أو تحقيق أهدافه.
لكي ينجح الكاريكاتور يجب أن يكون نقديا سريع التأثير من النظرة الأولى، وينبغي له أن يكون مُباشَرا ويحمل روح النكتة أو الفكاهة، حتى وهو يقسو أشدّ قسوة على ضحيته.
ولهذا، فإن الكاريكاتور الناجح فنيا وسياسيا أو اجتماعيا أو فكريا او اقتصاديا لا بدّ له من أن يولد عداوات لصاحبه كما يوَّلِّد معجبين وأصدقاء. ولكن، بصورة عامة، ينقلب المعجبون والأصدقاء إلى غاضبين أو شبه مُعادين إذا مسهم، وقد يتغيّر موقف المُعادين إلى مُعجبين إذا غرس خنجره في ظهر مُعادين لهم.
جريدة “شارلي إيبدو” كانت واحدة من بين المتعاطين الناجحين في هذا المجال. وقد جمعت أعداء أكثر مما كونت أصدقاء. ولكنها حشدت “قراء” من الطرفين، فاق عددهم، ربما، عدد قراء المقالات الناجحة أو المقالات الساخرة ذات الطابع الكاريكاتوري.
على أن الشهرة هبطت عليها، بشكل استثنائي، حين وجهّت سموم كاريكاتورها باتجاه الإسلام ونبي الإسلام صلى الله عليه وسلم. الأمر الذي جرح مشاعر المسلمين الذين اطلعوا على الرسومات أو سمعوا عنها. واعتبروا ما فعلته تلك الرسومات تعدّى ما يدخل ضمن “حريّة النقد” أو “حريّة الرأي”. ودخل في المحرمّات التي تمسّ العقائد والمقدّسّات.
ولكن عندما تجاوزت ردود الفعل الغاضبة نطاق الاحتجاج وإبداء الاستياء الشديد والمطالبة بوقف هذا التعدّي والتمادي الذي تخطى “حريّة الرأي والنقد”، إلى تعرّض الجريدة والعاملين فيها إلى عملية إرهابية إجرامية راح ضحيتها إثنا عشر من المتواجدين في المكان، دوّى في فرنسا وخارجها نداء “كلنا شارلي إيبدو”. وراح ينصب الاستنكار على الإرهاب ومرتكبيه، أو التعاطف مع ضحاياه الأبرياء.
إلى هنا، كان ذلك ماضيا في الاتجاه الصحيح، من حيث الوقوف ضدّ العملية الإرهابية الإجرامية ومن حيث التعاطف مع ضحاياها. ولكن المشكلة جاءت من الأصوات والمواقف التي راحت تسوّغ للجريدة رسوماتها التي تعرّضت لنبيّ الإسلام والمسلمين صلى الله عليه وسلم، تحت حجّة “حريّة الرأي”.
ولم تعتبرها خارج حدود حريّة الرأي باعتبارها مستفِزّة لمشاعر مئات الملايين من المسلمين وتدخل في باب الانحطاط والسفاهة وإثارة الفتنة وتشجيع الإرهاب.
وبكلمة تعالى صوت الدفاع عن “حريّة الرأي” إلى حد الإطلاق ورفض أن يُحَدّ بإطلاق. واتُهِّم الذين نقدوا تلك الرسومات من زاوية تعدّيها للحدود التي يجب أن يتقيّد بها النقد وتراعيها حريّة الرأي بأنهم يريدون كبت النقد وحريّة إبداء الرأي، باعتبارها أساس الديمقراطية والحداثة وما بعد الحداثة.
ولكن الموقف الخاطئ نظريا وسياسيا وأخلاقيا يأبى إلاّ أن يقف على رؤوس الأشهاد، فيكشف أنه ليس موقفا خاطئا نظريا وسياسيا وأخلاقيا فحسب وإنما، أيضا، ليقول “ارجموني”. كيف؟
لم يراعِ كاريكاتور جريدة “شارلي إيبدو” مشاعر الإيطاليين الذين فقدوا حوالي 300 قتيل، فضلا عن الدمار وعن أعداد كبيرة من الجرحى بسبب الزلزال الذي ضرب وسط إيطاليا، فرسم ثلاث ضحايا للزلزال على شكل “باستا” ومعكرونة وهي الطبخات الإيطالية رمزا للكارثة. فكتب تحت أحدهم “معكرونة بالطماطم”، وآخر “معكرونة بالفرن” وثالث تحت الحجارة والتراب “لازانيا”.
هنا وقعت جريدة “شارلي إيبدو” في شرّ أعمالها أو مسّت “محرما” في نظر الفرنسيين والإيطاليين والأوروبيين عموما، وذلك باستهزائها بما لا يجوز الهزء به أو بهم، فهي هنا لم تهزأ بالإسلام أو مقدسّاته، ولا تعرّضت لأديان يسمح الهزء بها ولا لشعوب من المستعمرات السابقة، وإذا بالاحتجاجات على هذا التمادي والتعدي تَدْوي في أرجاء عالم الغرب احتجاجا على الكاريكاتور الذي تعدّى الحدود التي تسمح بها “حريّة الرأي”. فها هنا أصبح لحريّة الرأي حدود لا يجوز تعدّيها.
في هذه المرة، أصبحت “حرية الرأي” و”حرية الصحافة” و”حريّة السخرية الكاريكاتورية” قد تعدّت حدودها، وأمكن أن يوصَف كاريكاتور استهزأ بموت المئات من الأوروبيين بأنه تعدّى حدوده، أو يوصف بأنه استفزازي وحقير، ويُقال للرسام ليس معك حق، أو ليس من حقك ألاّ تحترم مشاعر الإيطاليين.
مرّة أخرى إنها ازدواجية المعايير عارية، مثل المذنب الذي كاد يصرخ “خذوني”.
على أن السؤال أيضا ماذا سيقول الذين رفعوا شعار “كلنا شارلي إيبدو” ولم يتخذوا موقفا مفرّقا بين جريمة الإرهاب وخطورة استخدام حريّة الرأي للإساءة لمشاعر أكثر من ألف وأربعماية مليون مسلم.
كان يُمكن أن يقولوا نحن مع “شارلي إيبدو” ضدّ ما تعرّضت له من جريمة إرهابية. ولكننا لا نقرها بالاستهزاء بنبيّ المسلمين، ولا نعتبر ذلك مسوّغا يدخل في إطار “حرية الراي والنقد”. ولهذا عليهم أن يواجهوا الآن مشكل أخلاقي إن لم يندموا على موقفهم الأول.
عربي.