اعتذار لبيت عجوز !!رشاد ابو داود
31-08-2016 11:40 AM
البيوت أيضاً تهرم وتموت ،ليس الكائنات الحية فقط.لكن الانسان هو الذي يحييها وهو الذي يميتها.الحياة باعمارها والموت بهجرها. اعترف اني كدت اقتل بيتاً لي .هجرته سنوات بدون روح ،لم اسكنه ولم أدع احداً يسكنه.لم أؤجره ولم أبعه. كل ما فعلته اني دفنت فيه ذكريات جميلة لأيام صعبة .كانت ارضاً خالية من الحياة .لكن الاشجار التي زرعت حواليه بمساحة دونم ، أحيتها زيتون وتين وعنب وخوخ و رمان وتوت وكرز وتفاح وعنّاب .بين كل شجرة و شجرة ثلاثة امتار، وفي كل ثلاثة امتار حوض زرع والدي،رحمه الله، في كل منها نعنع و بقدونس وفجل وكوسا و بندوره وحتى ملوخية وملفوف و وزهرة. وعلى الحواف سور من الورد،جوري وقرنفل واضاليا وياسمين. بقيت وفياً للشجرلا للبيت.كلفت جاري ابو حاتم عاشق الارض والزرع ،الفلاح الذي ظلمناه كغيره من فلاحينا، فسعى الى رزقه من خلال دكان صغيرة تكاد بضاعتها لا تتجاوز الخمسمائة دينار، ومن خلال ما يزرع ويأكل من الارض ،ارض البيت .وأمام الدكان يلتقي اهل الحي مساءً يتسامرون ويحكون قصص زمان حيث كان «الواحد للكل و الكل للواحد» و «الجار القريب افضل من الاخ البعيد» ويشكون لبعضهم صعوبة الحياة في هذا الزمن . لكني ،اعترف انني لم اكن وفياً للبيت الجبلي الذي يطل على عمّان، يتمتع بجمال ليلها وصفاء نهارها، وبقدر اخلاصي للشجر كنت طيلة سنين ،جاحدا بحق الحجر. لم اكن اعلم ان الحجر ايضا يهرم ما لم تمسسه يد بشر لكأنه يحس ويتنفس. قررت ان اعتذر له،ان امسح عنه غبار الايام واعيده ابيض كما في عز شبابه .جدران البيت العتيق كانت شاحبة ،عليها تجاعيد سنين الوحدة وخربشات أولاد صغار كبروا،البيت أيضا كالبشر يفتك به الوجد ويقتله صقيع الغياب. على مدخل البيت استقبلتنا على اليسار ياسمينة تتدلى على رأس الباب كخصلة شعر على كتف صبة، وعلى اليمين زيتونة من عشر زيتونات عمرها ثلاثين سنة نقتسم انا وابوحاتم بمحصولها وبطعمها وبلذة ان تأكل من ما تزرع في ارضك لا من ما تشتريه من السوق .في الداخل ثمار مما لذّ وطاب وزقزقة عصافير وخرير ماء «بحرة» شامية اصلها ظل عالقاً في ذاكرتي منذ كنت ادرس في الشام .السروة التي نبتت وحدها شقت جذورها الصخر،صارت أطول من البيت ،تحبها العصافيرلكأنها امها ،تضع في حضنها بيضها ،وعلى أوراقها تكتب الأغاني المخضرّة .السروة لا تثمر فقط.....تحب وتبقى وفية .الليمونة التي كانت حباتها تذبل وتموت صغيرة قام ابو حاتم بتركيبها ،هل يعرف جيل اليوم ماذا يعني ان «تركّب» شجرة ؟!أن تجري لها عملية جراحية بفتح جرح في جذعها او احد اغصانها وتزرع فيه عوداً من شجرة اخرى وتلف عليها قماشا او قطعة خيش فيكبر العود ويصبح اكبر من باقي الاغصان ليثمر كما امه ؟! ليتنا نعود الى امنا الارض ،نرويها ونزرعها فتمنحنا الحياة .ليتنا نمنح الحياة للبيوت لنظل نشم رائحة الذكرى .ليتنا نصفي نوايانا وننقيها من شوائب الانانية و النفاق.فالغايات الخبيثة غابات موحشة ،شجر ياكل شجراً ،نار تحرق ناراً ..ما اوحش الانسان حين يصبح غابة !! |
الاسم : * | |
البريد الالكتروني : | |
التعليق : * |
بقي لك 500 حرف
|
رمز التحقق : |
تحديث الرمز
أكتب الرمز :
|
برمجة واستضافة