يستمر الاحتقان السياسي في البلد. استقطابات تستجلب ضدها وتمترس عبثي يلغي المنطق ويصغر قضايا عامة إلى صراعات أشخاص صغار مهما كبروا مقارنة مع مصلحة الأردن وشعبه. وكأن لا تقاليد ولا قوانين, يحيد السجال عن مسلكه السياسي القانوني, ما يفاقم التأزيم ويغيب الفعل العملي اللازم لمواجهة الاعتداء على القانون والمؤسسات وحق الناس في احترام الخَدَمَة العامين للدستور والتشريعات.
لا فائدة لأحد من استمرار حال الاستقطاب. ولا خير يرتجى من تسميم الأجواء العامة بسجالات تستنطق شتى أنواع البشاعة الفكرية والسياسية في هروب من مواجهة جذور التوتر المتمثلة في صراع صلاحيات حينا وتحايل على القانون أحيانا. ضرر كبير هو ما ينتظر الأردن إذا ظلت الضبابية سيدة مشهد عام مرتبك ومربك. وما عادت المرافعات اللفظية قادرة على طمأنة الناس إلى أن ما يشاع عن فساد مفترض وخرق للقانون واستقواء على مؤسسات الدولة لغط وادعاء. وحده الفعل الواضح الملموس يمهد لاستعادة ثقة المواطنين بمؤسساتهم بعد أن تتابعت سلسلة الشبهات بممارسات غير مشروعة.
ثمة حاجة لمواجهة القضايا التي تثار بشكل مباشر يبتعد عن التعميم الذي ثبتت عدميته. السجال العام يطلق أسئلة محددة. ولا يجب أن تكون الأجوبة أقل تحديدا. صحيح أن هنالك صعوبة في تقديم إجابات مباشرة حول بعض قضايا تتعلق بالصلاحيات وصراع المؤسسات. لكن الصحيح أيضا أن الحكومة تملك إرثا من التقاليد التي حكمت العمل العام وحمته سابقا. ويمكن لهذه التقاليد أن تحمي البلد راهنا ومستقبلا إن فُعّلت بسلطة القانون الذي لا يهادن من يتجرأ عليه.
فالدستور والقانون, مثلا, ينصان على تحريم الجمع بين العمل العام والخاص. وكلاهما يحرم تضارب المصالح الذي يفتح الباب حتما على احتمالات الفساد والتفسيد. هنا المسألة واضحة وعلى الأفراد أن يختاروا بين الخدمة العامة وبين الانخراط في صناعة المال. لكن رغم هذا الوضوح, كثيرة هي القصص التي تواردت أخيرا عن شبهات حول الجمع بين الموقعين العام والخاص أو عن تضارب مصالح في تعاملات بعض المسؤولين.
غياب الرد على هذه الشبهات غير مقبول. ويجب, تحديدا, توضيح ما يثار عن إحالة عطاءات رسمية أو إقامة علاقات عمل بين جهات حكومية ومكاتب أو شركات مسجلة بأسماء زوجات أو أبناء أو أقارب المسؤولين عن هذه الجهات. إن ثبتت صحة هذه الشبهات يجب أن تتخذ الحكومة إجراءات فورية للمحاسبة. وإن كان هنالك ثغرات تحول دون المحاسبة القانونية, فإن الموقع العام عمل سياسي ويجب أن تفعل المحاسبة السياسية ضد من يثبت خرقه للقانون أو روحه عبر صحافة يجب أن تكتب بجرأة ودقة, وبرلمان يجب أن يحقق ويردع, وحكومة يجب أن تعزل وتقيل.
يجب أن يعاد لمبدأ الشفافية قيمته التي فقدها لكثرة ما استعمل وقلة ما طبق. وما ينطبق على مبدأ الشفافية صحيح في ما يتعلق بالكثير من المبادئ والقيم التي زينت عروض البور بوينت (power point) لكنها غابت عن الممارسة الفعلية في غير قطاع ووزارة ومؤسسة.
ثمة مؤشرات عديدة أن السنوات السابقة شهدت ترديا في أداء الإدارة العامة وتراخيا في آليات المساءلة. هذه الحال توتر الأجواء السياسية وتضعف الثقة بمؤسسات الدولة. وقفها بات أولوية. ولا سبيل لتحقيق ذلك سوى بتفعيل أدوات الرقابة والمساءلة القانونية والسياسية ضد من يخرق القانون أو يتذاكى عليه أو يتحايل على أطر العمل المؤسساتي المحددة دستورا وقانونا. صار واجبا على الحكومة أن تعمل مع البرلمان والقضاء على إجراء تحقيق شفاف مستقل حول كل ما يثار عن خروقات قانونية ودستورية, لتأتي الأجوبة شافية مقنعة, فيحاسب من يدان بخرق القانون أو من يكيل الاتهامات الباطلة.
لا يجوز أن يسيء مسؤول استخدام موقعه. ولا يجوز أن يستسهل الناس اغتيال الشخصيات والتدهور إلى قيعان الاتهامية الباطلة. لكن وقف كلا الآفتين لا يكون إلا بتوفير إجابات مقنعة عن أسئلة تتكاثر في بيئة سياسية لا تحتمل المزيد من الاحتقان, وعبر تفعيل العمل المؤسساتي الذي يعاقب كل من يتجاوز عليه. إن ثبت أن مسؤولا خان الأمانة فليحاسب, إن لم يكن قانونيا فسياسيا. وإن ثبت أن لا ممارسات مغلوطة يتوقف اللغط وتتراجع الاتهامية. وفي كل الأحوال يجب أن يكون الوضوح في الصلاحيات والمسؤوليات نبراس العمل العام, وأن يظل القانون الفيصل في كل ما هو مرتبط به.
safadi@alghad.jo