ما هو اقرب طريق الى قبة البرمان ؟: صوت الناخب طبعا .
ما هو اقرب طريق الى صوت الناخب ؟ : جيب المرشح غالبا .
هذه عينة من الاسئلة التي تصب في اتجاه واحد , وهي ان الانتخابات مثل السوق تماما , تجري فيها عمليات شراء وبيع , تصفيات وتنزيلات , عرض وطلب , وغير ذلك من القيم السوقية التي يعرفها ارباب التجارة , وبعض المستهلكين ايضا .
في سوق الانتخابات , عادة ما تنتشر بضاعة الكذب والغش والدهلزة , فالمرشحون يكذبون على زبائنهم من الناخبين , وهؤلاء ايضا يهربون من واجهتهم بالحقيقة التي يعرفونها فيكذبون عليهم بالمجاملة , وحين ندقق اكثر نجد ان لهذا الكذب ثلاثة تفسيرات على الاقل , احداها ان المرشح يمتلك من البراعة والذكاء والخبرة ما يمكنه من بيع وعوده للجمهور ، ولان لدى الناس احيانا قابلية للتصديق فانهم يشترون هذه الوعود ويصدقونها , اما الثاني فهو ان المرشح احيانا يتذاكى ويتشاطر وفي ظنه ان الناس مغفلون والحقيقة عكس ذلك تماما , فالاردنيون في الغالب طيبون ولا يحبون “ تسويد الوجوه” او كشف المستور امام من يتودد اليهم او يطلب منهم المعونة , يبقى التفسير الثالث وهو ان الطرفين : الناخب والمرشح ، يعرفون سر اللعبة ويقرآن ما بين السطور , وبالتالي لا يجدان ادنى صعوبة في التفاهم – التواطئ ادق – ما دام انهما في سوق انتخابات شعاره “ بين البايع والشاري يفتح الله “.
في مثل هذه الاجواء الانتخابية تنفتح شهية الاردنيين على تبادل “ النكت “ , اخر نكتة سمعتها عن “ الكذب “ في سوق الانتخابات , ان احد الاباء اكتشف ابنه الصغير وهو يمارس الكذب , فزجره , ثم ساله : هل تعرف اين سيكون مصير الواحد لما يكذب ؟ , ضحك الولد الصغير وقال : ربما يصبح نائبا يا ابي .
لا ادري , بالطبع , اذا ما كان “ الكذب “ السياسي يمكن ان يدرج في باب المباح , اسوة بالاصناف الثلاثة التي ذكر بعض الفقهاء انها “ حلال “ , لكن كنت اشرت في مناسبة سابقة الى ان البعض يعتبر ان العبث في الانتخابات سواء بالكذب واطلاق الوعود او بالغش والتزوير مجرد اجراءات مشروعة اومن لزوم ما يلزم ، ولا علاقة له بالحرام او بالعيب ، وربما لا يتعارض مع الاخلاق ، بينما يعتبرون شرب الخمر مثلا أو الإفطار في رمضان من أكبر المعاصي والكبائر؟ هذا التصور الخاطئ لا يعكس فقط المسافة الشاسعة بين حقيقة الدين والطريقة التي نفهمه بها ، بمعنى آخر بين حقيقة ما ينص عليه الدين وما يقره من تعاليم وقيم تضبط سلوكنا وترشدنا الى الفعل الصحيح وبين واقع التدين وانماطه:هذا الذي تعرض لكثير من الالتباسات وسوء الفهم والتطبيق،( لاحظ هنا انه وبرغم اختلاف الفقهاء حول الكبائر إلا أنهم اتفقوا جميعا على أن شهادة الزور من أكبر الكبائر حتى إن القرآن الكريم حذر بشدة من شهادة الزور في أكثر من آية مثل : “ فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور” ) ، وانما تعكس ايضا الاختلالات التي اصابت منظومة القيم والاخلاق في مجتمعنا ، لدرجة ان بعض هذه الممارسات اصبحت جزءا من “المقبول “ الاجتماعي رغم ان الجميع ينكرها في العلن ويتبرأ منها ايضا .
في سوق الانتخابات يمكن ان تسأل : لماذا تراجع اهتمامنا بوزن “المرشح” السياسي لحساب “وزنه” المالي؟ ولماذا غابت معاييرنا “القيمية” لمصلحة معايير “المقايضة” و”الدفع قبل الجمع”؟ ولماذا تحول موسم الانتخابات الى فرصة للبذخ والانفاق بلا حدود ، فيما لم نر مثل هذا الكرم الحاتمي في وقت الشدائد؟ ولماذا لا يتردد البعض في “بيع” اصواتهم مقابل دنانير قليلة؟ ولماذا انتصرت تقاليد النفاق والخداع ومراسيم الاحتفاء المغشوش على اخلاقيات “المواطنة” وقيم الصدق والمصارحة وفضائل الخير غير المشروط وتعاليم ديننا التي تمنعنا من المداهنة والتزوير والكذب والمتاجرة بالذمم ؟؟؟ لماذا؟
في موسم الانتخابات -للاسف - نكتشف ان مجتمعنا تغير ، وان ما اصاب اخلاقنا وقيمنا وتعاملنا مع بعضنا كان اخطر مما نتصور وان شعاراتنا التي نرفعها تبدو احيانا مغشوشة تماما ، لان سلوكنا “يكذبها” وممارساتنا تفضحها ونكتشف ايضا ان انحدار السياسة لم يكن سببا وانما نتيجة لانحدار اخلاقي واجتماعي وبان حصاد اداء النائب الذي كنا نشكو منه كان بسببنا نحن الذين زرعنا الفسائل وهو الذي يرد التحية بأسوأ منها.
رجاء ، لا تقل لي ان الحكومات هي المسؤولة او ان الظروف الاقتصادية هي السبب او ان “السياسة” فعلت افاعيلها في قيم الناس.. كل هذا صحيح ، لكن نحن -كمجتمع - المسؤولون اولا عما انتهت اليه احوالنا.. يا لطيف..!
الدستور