قلنا في المقال السابق أن علاقات اجتماعية متشابكة جمعت بين الأردنيين, على اختلاف دينهم, وأن هذه العلاقات هي نتيجة ثقافة مشتركة اتصفت بالتسامح و تربى عليها الأردنيون فجعلت منهم نسيجاً اجتماعياً مختلفاً, أهم مزاياه أنه مجتمع متعدد يعيش فيه الجميع كأبناء ثقافة واحدة, يتشاركون في بنائها ويتلقى فيها بعضهم من بعض, ولعل من أبرز الشراكات الثقافية في أيامنا هذه شراكة المبدعين موسى حجازين «سمعه» و أحمد حسن الزعبي. وعلى قاعدة الشراكة كمكون أساسي من مكونات المجتمع الأردني, لم يعترض أحد على تولي جريس سماوي قيادة العملية الثقافية أميناً عاماً لوزارة الثقافة ثم وزيراً لها, وهو الأمر الذي انسحب على تولي ميشيل حمارنه ثم أكرم مصاروه إدارة مهرجان جرش, أكثر من ذلك فقد التف الأردنيون حول الدكتور مروان المعشر كوزير للإعلام, وما زالوا يتحدثون عن تجربته في الإعلام بإعجاب ويتمنون تكرارها, ومن المعروف أن الثقافة والإعلام من أهم قنوات بناء المفاهيم والقناعات والتوجهات, ومع ذلك لم يجد الأردنيون ضيراً في أن يتولى قيادة الثقافة والإعلام مسيحيون أردنيون, تسليما منهم بأننا أبناء ثقافة واحدة شركاء في بنائها, وقبل ذلك لم يعترض أحد من أهل اربد عندما أوكلت مهمة رعاية شباب المدينة إلى مسيحي, هو الأستاذ فهد قاقيش, الذي اختير كأول مشرف على مركز شباب اربد الذي أنشأته مؤسسة رعاية الشباب, فلم يخش أحد من اربد على ثقافة وتربية ودين ابنه, بما في ذلك أبي شديد التدين فقد كنت عضواً في ذلك المركز, ورغم أنني كنت طالباً متديناً فقد كان الأستاذ فهد يحيطني برعايته وتشجيعه, وهكذا صار الأستاذ فهد قاقيش المسيحي من أساتذتي في النشاطات اللامنهجية من خلال مركز شباب اربد, ففي تلك الفترة كان الأردنيون يعيشون التسامح والتعددية واقعاً لا شعاراً.
مثلما كان لي أساتذة مسلمون ومسيحيون في النشاطات اللامنهجية, فقد كان لي أساتذة مثلهم في المدرسة, وعند التعليم لابد من أن نتوقف لنتذكر بأن نسبة عالية من المسلمين تعلموا في مدارس الراهبات وغيرها من المدارس التي يملكها ويديرها مسيحيون, مثلما كان المعلمون في المدارس الحكومية من المسلمين والمسيحيين ولم يكن أحد من الأردنيين يطرح سؤال الدين, انطلاقا من مفهوم الشراكة الثقافية التي تجمع الجميع, وتجعل من البديهي أن يُعلم كل منهم الآخر على مقعد الدرس, كما علمني الكبير جورج حداد»أبو أدونيس» الذي صار فيما بعد صديقاً عزيزاً, ومن في الأردن لم تشده مقالات جورج حداد على صفحات الرأي التي كان يوقعها باسم «جعفر» بكل ما لاسم «جعفر» من دلالات في تاريخنا, ثم مقالاته باسمه الصريح في الدستور التي استقطبه إليها أبي, ومن في الأردن يستطيع أن يشكك في إخلاص جورج حداد لقضايا أمته, وهو القومي المتجذر, ويكفي أنه كان مرجعاً في معرفة العدو الصهيوني ومخططاته,و كان العقل المحرك للبرنامج العبري في التلفزيون الأردني وهو البرنامج الذي أقلق مضاجع اسرائيل لفترة طويلة.
ومن الشراكات الثقافية بين المسلمين والمسيحيين الأردنيين الشراكة التي كانت تمثلها جريدة اللواء التي أسسها أبي في مطلع سبعينيات القرن الماضي, وصنفت على أنها صحيفة إسلامية ملتزمة, ومع ذلك لم يخل كادرها من مسيحي فقد كانت في صحيفة اللواء مجموعة من خيرة الكتّاب والمحررين المسيحيين, وفي الذاكرة الأساتذة يوسف أبو ليل وجورج مصلح, ونويل عبد الأحد وعوني بدر, وموسى الأزرعي وزهير القسوس وسلطان حتر وجون حلبي, الذي كان مديراً إدارياً لهذه الصحيفة ذات الصبغة الإسلامية, والتي كان المسيحيون الأردنيون بما في ذلك القساوسة من أمثال القس قيس صادق وغيره ينشرون على صفحاتها, دفاعاً عن ثقافة الأمة وحضارتها.
ومن الشراكات الثقافية التي اعتز بها شراكتي مع سادن اللغة العربية الدكتور منذر حدادين, فقد كان أول من خطرعلى البال عند تشكيلنا للجنة العليا للمشروع الوطني للدفاع عن اللغة العربية, فهو واحد من أشد الناس غيرة على اللغة العربية,و دفاعاً عن صورة الإسلام, خاصة في المحافل الغربية,وأجزم بأن الدكتور منذر حدادين يحفظ عن ظهر قلب من آيات القرآن أكثر مما يحفظ منها الكثير من المسلمين, مثلما يحفظ من عيون الأدب والفكر العربي والإسلامي, وهو أشد حماساً وأبين حجة في الدفاع عن الثقافة العربية والقضايا العربية من كثير من المسلمين,وهو بذلك ليس حالة فريدة أو نادرة, فالمسيحيون العرب هم أبناء هذه الثقافة وشركاء أساسيون في بنائها, والحفاظ على لغتها,وما زلت أذكر أبي الداعية الإسلامية وتشاركه مع العربي المسيحي إميل الغوري في التصدي للهجمة التبشيرية,حتى لا تكون سبباً من أسباب الفتنة بين أبناء الوطن الواحد, واشتراكا منهما في مقاومة الاستعمار والصهيونية, ودفاعاً عن ثقافة أمتنا وحضارتها.
وفي هذا المجال أي مجال الدفاع عن الثقافة العربية الإسلامية يبرز اسم الأستاذ روكس بين زائد العزيزي, وما أدراك من هو روكس في مجال الدفاع عن ثقافة أمتنا وهويتها, ويكفي أن نذكر هنا كتابه عن الإمام علي بن أبي طالب الذي حمل اسم « أسد الإسلام وقديسه» وكثيرة هي مواقف روكس في الدفاع عن ثقافتنا,وهو الدفاع الذي طالما توحدنا تحت رايته مسلمين ومسيحيين, أبناء ثقافة واحدة, تجسدت في حياة مشتركة بيننا كما سنرى في مقال لاحق.
الراي