الساكت: ردة ظلامية عصفت بإنجازات قرن كامل
21-08-2016 06:47 PM
عمون - ألقى الوزير الأسبق مازن الساكت محاضرة في خضم فعاليات مهرجان الفحيص 2016، تاليا نصها:
مهرجان الفحيص 2016
مستقبل المشرق العربي
السيدات والسادة الاعزاء
إنه ليسعدني ويشرفني ان أشارككم مناسبة مهرجان الفحيص، البلدة الجميلة الحبيبة، أيقونة عقد المجتمع المدني والتقدم والمعاصرة التي نسعى الى بنائه في مواجهة الردة الظلامية الطائفية والمذهبية والجهوية والاقليمية المتخلفة التي عصفت بإنجازات قرن كامل من محاولات الاستقلال والنهضة والبناء، وتكاد تعيدنا الى عصر ما قبل الدولة.
ويزيدني سعادة وامتنانًا ان أشارك المفكر العربي الاستاذ (معن بشور) مسؤولي وأستاذي وصديقي في مرحلة مبكرة من نشاطي السياسي في بداية السبعينات، وأن أرحب به في الاردن وفي مهرجان الفحيص ضيفًا عزيزًا عاش بيننا في مراحل سابقة وبقي على تواصل وتفاعل دائم مع الحركة السياسية والفكرية الاردنية.
الاخوات والاخوة
لا أعتقد في ندوة كهذه بإمكانها التصدي لعنوان بهذه الشمولية، وما يتطلبه من عمق في تشخيص الظواهر وتحليل الواقع وتطوراته وتحدياته وقواه الفاعلة، واستشراق أفاق المستقبل وإحتمالاته وتحديد الخيارات المتاحة وامكانيات تحقيقها .....
وعليه فأرجو ان تتمكن هذه المداخلة وفي هذه المرحلة التي إختلطت فيها المفاهيم وتداخلت الإتجاهات والمواقف، وباتت الضبابية وعدم اليقين والخوف من وعلى المستقبل سيد الموقف، من الإسهام في حوارات مطلوبة لتوضيح الرؤيا وتحديد الاهداف وإعادة الامل لأجيال تضاعفت امامها صعوبات التحديات.
لقد مرت مجتمعاتنا العربية الحديثة في مسيرتها ومحاولتها تحقيق الاستقلال وبناء التقدم والطموح الى الوحدة منذ مرحلة النهضة والتخلص من الاستعمار المباشر، بتطورات وأحداث كانت تتأثر دائما بالواقع الدولي ومعادلاته وصراعاته وتحالفاته ومصالحه وتوجهاته الفكرية والسياسية والاقتصادية.
وخضعت عملية بناء الدولة في الوطن العربي وأنظمتها السياسية الى تلك العوامل والمعادلات، فكانت سايكس-بيكو وتقسيماتها الجغرافية العامل الأهم في تحديد حدود الدولة الوطنية العربية الحديثة، وشكلت قيادات حركات الاستقلال والتفاهمات والتحالفات مع القوى المهيمنة، وبعد ذلك وفي مراحل الخمسينات من القرن الماضي الإتجاهات الحديثة التي أفرزتها المجتمعات العربية وقواها السياسية والطبقية وخلافاتها وصراعاتها وإنقلاباتها وثوراتها، شكّل هذان العاملان طبيعة الانظمة السياسية والفئات الحاكمة فيها ونهجها الاقتصادي وتحالفاتها الدولية ....
وكانت القضية الفلسطينية والصراع العربي الاسرائيلي، والتخلص من الهيمنة السياسية والاقتصادية، وطموحات التوحد، العوامل الرئيسية فيما شهدناه من أحداث وتطورات في الوطن العربي.
ولكن التطور الأهم والأكثر تأثيرًا في رأيي كان هزيمة معسكر التحرر وإنهيار منظومة المعسكر الإشتراكي، التي أسهم في فشلها وصول تلك التجربة الى مأزقها التاريخي، وفشل معادلة الرفاه والحرية في نموذج الأنظمة الشمولية.
لقد شهدت أواخر عقد الثمانينات من القرن الماضي نمو إتجاهات كانت مقدمة لدخول عصر جديد، باتت الديمقراطية فيه خيارًا شعبيًا للوصول الى أنظمة سياسية ومجتمعات تتحقق فيها حرية المواطن وعدالة القانون والحق بالمشاركة.
غير أن طبيعة النظام العالمي الجديد الذي تبع تلك المرحلة ومصالح القوى المهيمنة والمتفردة وفرض سياساتها ومعاييرها، وحقيقة أن الديمقراطية هي محصلة تطورات اقتصادية اجتماعية ثقافية تاريخية شاملة وعميقة للمجتمعات والشعوب في الدول الرأسمالية، جعل عملية تبني الديمقراطية وتجارب تطبيقاتها في الدول النامية ومنها دولنا، تصطدم بإرث تاريخي من الثقافات والعلاقات والمؤسسات المجتمعية، لم تتمكن من تجاوزها، وهو جانب هام من المشكلات والإخفاقات التي شهدناها في محاولات بناء نموذج عربي للدولة الديمقراطية المعاصرة.
بمعنى أن ليس كل المشكلات والتراجعات هي فقط بسبب تفرد قوى الهيمنة والشد العكسي، وإن كان هذا الواقع قد ضاعف من قدرة تلك القوى على إفراغ التجارب الديمقراطية من مضمونها.
ولذا فإني أعتقد بأن قضبة الديمقراطية كانت ولا تزال احد المهام الرئيسية امام حركة الفكر العربي وامام القوى وحتى الأنظمة السياسية التي غلب طابع الشعار على تبنيها للديمقراطية، ولم يتحول الى حالة تعبر عن تغيير حقيقي وعميق في الفكر والممارسة السياسية.
كما كانت احد النتائج الاساسية لتلك المتغيرات الدولية، انتشار حالة من التشكيك فيما كانت تتبناه قوى معسكر التحرر وتجاربها في السلطة، وإزدياد النقد الموضوعي وغير الموضوعي لأخطائها وخطاياها. وبالتالي ضعفت وتراجعت وسقطت منظومة من الخيارات والبرامج والقوى.
لقد أدى كل ذلك الى بروز حالة من الفراغ السياسي ملأها من جهة، الإتجاهات الدينية السياسية التي باتت الملاذ الشعبي في مواجهة واقع الهيمنة الجديد وحماية الذات الوطنية والقومية والثقافية، وقوى جديدة مثلت النهج والسياسات التي فرضها نظام العولمة من جهة أخرى، الامر الذي أحدث تغييرًا جذريًا في الواقع العربي الشعبي، بل والرسمي، الذي كانت تقود القرار السياسي والاقتصادي للسلطة فيه في الأغلب الأعلم شرائح وفئات الطبقة الوسطى.
وكان من ضمن النتائج المباشرة لهذا الواقع الدولي الجديد على الوطن العربي، إحتلال العراق وفرض التسوية السياسية في القضية الفلسطينية .... ومحاولات فرض مفاهيم الشرق أوسطية، وفرض سياسات إقتصادية تسارعت فيها عمليات تراجع دور الدولة في إدارة الاقتصاد الاجتماعي، والتي لا بد ان نفرق هنا بين "الدور الاقتصادي الإجتماعي" و"الدور الرييعي" الذي بإسمه تمت عمليات خصخصة غير مدروسة للشركات والمؤسسات العامة بما في ذلك مؤسسات الخدمات الأساسية، الكهرباء والإتصالات والمياه .... والاخطر هو في تبني نهج الإقتصاد المالي والورقي على حساب تراجع نمو الإقتصاد الإنتاجي والسلعي والخدمي..... وأفرزت تطبيقات النمط الاقتصادي الجديد ظواهر فساد غير مسبوقة وتمركزًا للثروة بيد مجموعات تحكمت بالقرار والتشريع الاقتصادي والسياسي.
ومع استمرار النمو السكاني واتساع التعليم وإزدياد عدد الخريجيين وإختلاف مستويات مخرجاته وتدني جودة التعليم العام خاصة خارج المراكز المدينية، أخذت تتعمق أزمات البطالة والفقر وانعدام تكافؤ الفرص، بل وبالرغم من الحديث عن الليبرالية السياسية تراجعت الحريات العامة في معظم الاحيان.
كل ذلك فجر حالة الغضب الشعبي العربي او ما سمي "بالربيع العربي"، والذي نادى بالاصلاح والمشاركة والعدالة ومحاربة الفساد والتغيير .....
غير ان العامل الرئيسي الآخر في هذا التحول التاريخي العميق في المنطقة كان دور ومخططات القوى المهيمنة وسياساتها ومصالحها وأهدافها ....
لذلك فقد طرحت هذه المرحلة التاريخية في ثناياها قضيتين رئيسيتين
الاولى: فرصة تاريخية للإصلاح والتغيير والتقدم وفرض المشاركة الشعبية
الثانية: مخاطر العنف والإقتتال الأهلي ونمو النزعات والثقافات الطائفية والجهوية والعشائرية والعرقية وتدمير المنجزات والمجتمعات وهدم الدولة.
وهو مع الأسف ما تحقق في معظم ما شهدناه من تطورات لظاهرة "الربيع العربي"، وانكشفت مخططات أسهمت مبكرًا في التهيئة لهذه الحالة بإسم التدريب على قضايا حقوق الانسان واستخدام وسائل الاتصالات الحديثة، ولاحقًا في التدريب والتسليح واستخدام العنف، وظهرت تحالفات جديدة بين القوى الدولية واتجاهات الاسلام السياسي بشكل مباشرة.
لقد وجهت هذه الحالة ضربة قاسمة الى بقايا النظام والتضامن العربي وزجت أطرافة والقوى الإقليمية في معادلات الصراع والإقتتال والعنف الطائفي والمذهبي وباتت الخلافات العربية والقوى الإقليمية أساسًا لدعم وتمويل وتدريب وتسليح قوى العنف والتدمير والتفكك وهدم الدولة، ولم يعُد للعرب وزن يُذكرفي الساحة الإقليمية والدولية.
ولابد هنا من التوضيح بأن تلك النتائج الكارثية لا تنفي نضالات وتضحيات انتفاضات الجماهير الشعبية العربية وحِراكاتها من أجل الحرية والعيش الكريم وضد الإستبداد والفساد، ولكن تلك النضالات والطموحات والاحلام، لا يمكن ان تفسر او تبرر او تمنعنا من فضح ومقاومة ومحاربة ما يحدث في بلادنا باسم الربيع العربي.
أن تعرية وتجريم قوى الظلامية والتخلف والطائفية وتدمير انجازاتنا ودولنا ومجتمعاتنا ليست محاولات "شيطنة" للربيع العربي كما لا يزال يحلو للبعض ان يطرح في الحوارات السياسية.
إن حقائق حالة الضعف والانقسام العربي وتراجع القضية الفلسطينية ومركزيتها والتدمير الذاتي الذي شهدناه لدول مثل ليبيا وسوريا واليمن إضافة الى العراق منذ الإحتلال الامريكي، وانهيار منظومات التعليم والصحة والخدمات والبنى التحتية والاقتصاديات الوطنية والتحكم بالسياسات النفطية وأسعارها، وحالة تمزيق المجتمعات والشخصيات الوطنية العربية بعد اضعاف الانتماء العربي، وتفتيتها الى انتماءات طائفية ومذهبية وجهوية وعرقية، وخلق معادلة الصراع السني الشيعي في مجتمعنا العربي وافراغه من التعددية الدينية من خلال عمليات التهجير الجماعية، هي النتائج الاخطر لهذه الكارثة. والتي تحتاج الى عقود من الزمن لمعالجتها.
كل تلك الحقائق التي حاولنا ان نضع وصفًا تحليليًا لها في واقعنا العربي، هي التحديات المستقبلية التي نواجهها، وهي كافية لتطرح مدى خطورتها على الوجود العربي وصعوبات مواجهتها، بل انها تدفع الى اتساع حالة التشاؤم والإحباط واليأس التي نعيشها.
فهل نستسلم لتلك الحالة رغم كارثيتها وتدميرها لمجتمعاتنا وقدراتنا ووحدة شعوبنا والإنتماء لامتنا وعروبتنا.
إن قدرة الشعوب والامم على النهوض ليست مجرد أمنيات بل حقائق في تاريخ الأمم الحية التي تمتلك مقومات النهوض التاريخي والحضاري والواقعي كما هي أمتنا العربية.
ولكن قدرة اي جيل على إنجاز نجاحات في مواجهة مثل هذه التحديات، لابد ان يستند الى امتلاك الوعي بها وتحديد الأهداف الواقعية القابلة للتحقيق وان يضع البرامج ويبني الأدوات التي تمكنه من مواجهتها.
إن المعركة الكبرى التي علينا ان نخوضها قوى وشعوب وأنظمة هي في مواجهة ايدلوجيات التفتيت المذهبي والطائفي والجهوي والعرقي والإقليمي.
ولابد ان نعود الى بناء وحدة الشخصية الوطنية العربية في اقطارنا، وبناء الإنتماء العربي لأمتنا
ان تلك مهمة كل القوى والأدوات الشعبية والرسمية من التربية والتعليم الى الإعلام والثقافة، وبما في ذلك المؤسسات الدينية ورجال الدين.
ثقافة وقوانين تجرم العنف والتكفير ونفي الاخر وتجرم أصحابها، وترفض ان يكونوا جزء من النسيج الوطني.
والمهمة الثانية هي إعادة بناء الحد الأدنى من منظومة العمل الرسمي العربي "الجامعة العربية" والعودة للتعامل مع الخلافات العربية من خلالها، ووقف عملية انحدار هذا التعامل الى مستوى دعم العنف والإقتتال الأهلي.
ان تفعيل النظام العربي رغم واقعه المرير، هو وحده القادر على إعادة بناء معادلات التوازن الإقليمي الذي باتت دوله الرئيسية ايران وتركيا جزء من حالة الصراع والعنف والتفتيت المذهبي في بلادنا، وعلى وقف الاستباحة للارض العربية. كما ان غيابه هو الدافع الرئيسي لازديادة مخططات التوسع الإستيطاني الاسرائيلي وتهديد الاراضي المحتلة وتهويدها.
والمهمة الثالثة هي الدفع باتجاه إيجاد الحلول السياسية والتبني الحقيقي لها في الدول التي تشهد نزاعات مسلحة، حلول على أنظمة الحكم فيها ان ترضخ لمعادلات الشراكة واحترام الحريات وحقوق الانسان، وهي الحلول التي لا مكان فيها لقوى التكفير والقتل والطائفية والمذهبية.
والمهمة الرابعة التمسك بالخيار الديمقراطي الذي يسعى الى تقدم تدريجي وتراكمي واقعي ولكنه حقيقي ومستمر في عملية بناء المجتمع المدني والدولة المدنية.
ولا شك اننا بحاجة الى حركة اصلاح فكري وثقافي عميقة وشاملة، تشمل النهوض بحركة اصلاح ديني كانت قد بدأت مع بداية مرحلة الاستقلال والنهضة في بداية القرن الماضي، ثم تعطلت بحكم عوامل عديدة أوجدتها معادلات الصراع الدولي في تلك المرحلة. وتستهدف إنتزاع ترسبات الجهل والظلامية والتعصب، وتُرسخ مفاهيم ومبادئ الدولة المدنية، وفصل الدين عن السياسة.
إن تطورات الأحداث رغم واقعها الكارثي الذي أشرنا اليه تُشير ايضا الى تراجع نمو القوى التكفيرية وتراجع الدعم الذي كانت تتلقاه والى بداية وتزايد مواقف محاربته حتى من الجهات التي تبنتها ودعمتها بعد احساسها بمخاطر الارهاب الذي وصل الى مجتمعاتها.
ولعل الدخول الروسي الذي شكل عاملًا حاسمًا في تغيير معادلات موازين القوى والذي مثل التأكيد على بروز واقع دولي جديد ونوع من التوازن الدولي مبني على المصالح يخوض حروب باردة تذكرنا بصراع معسكر التحرر الذي كان يستند الى المبادئ والمصالح معًا، هو ايضًا عاملًا مهمًا في عملية تحقيق الأهداف التي أشرنا اليها.
إن تحقيق تلك المهام يحتاج بالتأكيد الى وحدة كل قوى المجتمعات وفئاتها واتجاهاتها والى وعي الأنظمة السياسية، ليس فقط لمصالح الواقع العربي ومصالحها الاستراتيجية، بل لمصالح دولها ومصالحها الذاتية ولاستمرارها ....
إننا أمامنا تحدٍ تاريخي لا يحتمل السكون الى التشاؤم واليأس والخوف من المستقبل حتى من قِبل المواطن العربي العادي.