فضيلة الحوكمة .. يا "حكماء" الشركات!
جهاد صعيليك – دبي
31-08-2008 03:00 AM
سألني سائل من زمن غير قريب، قال: اضرب لي مثلا واحدا على جدوى حوكمة الشركات ومنافعها! قلت: أسمعت بالذي جرى في العملاقة هاليبرتن... من الذي كشف تلك التجاوزات المالية وأحالها للسلطات القضائية؟ لقد كانت البداية من أقسام التدقيق المالي والمحاسبي، التي عملت بنظام مالي وإداري شفاف يسّر اكتشاف التجاوزات وملاحقتها!
تذكرت هذا الحوار القصير وأنا أقرأ تصريحات النائب العام في دبي؛ المستشار عصام الحميدان، حول تعليمات القيادة العليا في الإمارة بمكافحة الفساد بشكل لا تساهل فيه، سواء في المؤسسات العامة أو الخاصة، دفاعا عن المال العام والخاص، وحماية لسمعة إمارة بُنيتْ على مدار عقود بالعمل الجاد والشريف، ولا مجال للسماح لمن لا يؤمنون بالعمل الشريف، من متكسبي ليلةٍ وضحاها، أن يعبثوا بها!
تساءلت عندها: هل شركاتنا جاهزة للتجاوب مع الإجراءات التي سيتخذها الجهاز القضائي والسلطات القانونية والمالية، وهل تتيح إجراءات العمل والتوثيق والإدارة في شركاتنا الكبرى والصغرى اكتشاف مواطن الخلل والتأشير عليها إن بقلم المدقق أو بمبضع الجراح، أو حتى بسلطة المحقق؟
حين طُرحت فكرة "حوكمة الشركات" على الملأ في منطقة الخليج، تعامل البعض معها على أنها بعبع يستهدف الشركات العائلية. ونسيَ هؤلاء أن الشركات العائلية تستفيد في جانبين؛ تطوير الإنتاجية ومن ثم الربحية على المستوى المؤسسي ككل، وتقليل الفاقد (المالي والإنتاجي) نتيجة غياب الشفافية في كثير منها بسبب عدم وجود منظومة تشغيلية واضحة.
اليوم، يحتاج الجميع إلى طرح السؤال من جديد من منظور أخلاقي وقانوني، بحيث لا تتحول الشركة، أي شركة، إلى مظلة تحمي، دون قصد، موظفا إداريا لا ذمة له، وبحيث يعمل النظام الإداري والمالي والقانوني في الشركات المعنية بشكل وقائي يمنع التجاوزات ويكشفها فورا إذا لم يتمكن من صدها.
ما الذي يحتاجه رؤساء مجالس الإدارة، وهم ممثلو المساهمين، المؤتمنون على أموالهم وأرباحهم؟ سأضرب مثلا بسيطا نبدأ منه النقاش، إذا اقتضت الحاجة تعيين طرف ثالث لتدقيق وتقييم إنتاجية الشركة وسلامة هيكليتها المالية والإدارية، ما الذي يضمن صحة المعلومات التي سيقدمها الموظفون المعنيون؟ في حالة معينة اطلع هذا الكاتب على تفاصيلها، كانت حتى إفادة المدير العام للمدقق عبارة عن مستندات ملفقة!!!
هذه نقطة مهمة تستحق أن توضع في عين الاعتبار عند البدء بالتفكير في حوكمة أي شركة. لكن ما ينبغي أن يوضع في البال أنه على أهمية العنصر المحاسبي هنا، فإنه لا يجوز أن يكون وحيدا!
في الشق المحاسبي، ندعو هنا أن تكون هنالك أسس واضحة ليس فقط للعمليات اليومية على مستوى صغار الموظفين والمديرين المتوسطين، وإنما أيضا للصلاحيات الممنوحة لرؤساء مجالس الإدارة، والمديرين العامين، والرؤساء التنفيذيين، سواء كانت مالية مباشرة، أو إجرائية يترتب عليها التزامات مالية! عم أتحدث؟ هل يجوز لرئيس تنفيذي أو مدير عام جديد مثلا أن يلغي عقدا مع شركة موردة للشركة التي يرأس لا لشيء إلا لأنه يرتاح (!!) لشركة أخرى؟
الجواب سؤال: إذا كان سيدفع الشرط الجزائي من جيبه فلا بأس!
لكن الحوكمة تتجاوز ذلك إلى الجوانب التشغيلية بما فيها من انعكاسات مالية. فإحالة العقود، والمناقصات، والتعيينات، والعلاقة مع الأسواق والموردين، والتطبيقات الخدمية مثل العلاقة التجارية مع وسائل الإعلام ووكالات الإعلان، كلها تتأثر وتؤثر في استحقاقات الدفع النهائية للشركات، وتحتاج إلى درجة موضوعية من الشفافية لحماية أموال المساهمين، والسبيل الأمثل لذلك وضع ضوابط إجرائية دقيقة من قبيل استدراج عروض من عدة جهات بأسلوب علني ثم تقييم العروض من قبل لجان مشتركة بين الإدارات الفنية والمالية، مع تحديد مسبق لشروط التأهل.
وسأشير هنا إلى حالة إدارية مكملة للنقاش فكثير من الشركات وحتى الإدارة الحكومية حرصت منذ أوائل التسعينيات على الفوز بشهادة التوافق مع المواصفة العالمية أيزو 9001... ومع أن هذه المواصفة ذات علاقات بالتطبيقات الصناعية والإنتاجية، إلا أن من المهم التذكير أنها حملت أولى بذرات حوكمة الشركات من خلال اشتراط تدقيق وتوثيق كافة مراحل التشغيل. وهذه الفكرة عبقرية في حقيقة أنها تتيح لصانع القرار في أي شركة، والجهة المدققة (سواء لأغراض قانونية أو محاسبية)، تتبع طريقة اتخاذ قرار ما، وكيفية تأثيره المالي في الشركة.
لكن نظام التدقيق/التوثيق الذي نشير إليه يجب أن يتمتع بحماية ذاتية (وقائية) ضد محاولات الغش والخداع، ولذلك نجد أنه في تطبيقات معينة لا تقبل توقيعات اقل من أشخاص ثلاثة، على قرار ما، مع منح ذوي الرتب الإدارية الأدنى، حصانة ضد تعسف ذوي الرتب الإداري الأعلى.
أدرك أن كثيرا من هذه الاقتراحات تحتاج إلى جرأة قد لا يريد كثير من مديري الشركات الانشغال بها، لكن إذا كان الخيار أن تترك السوس ينخر في شجرة شركة ما أو معالجته، فلا باس من وجع قصير..
وفيما أحاول أن أختم هذه المقالة، أستذكر مثلا صالحا لهذه الحالة يستفاد من مفهوم (الممارسة التصنيعية الجيدة) الذي تشترط إدارة الأغذية والأدوية الأمريكية تطبيقه بشكل حاسم وصارم في أي مصنع دواء لكي يتمكن من بيع أدوية في السوق الأمريكية، وهو أن تتوفر شروط الجودة الصارمة نفسها في جميع مراحل الإنتاج، بدءا من المواد الخام وحتى التغليف النهائي.
يا سيدي المدير، حين تفكر في حوكمة الشركات، فكر في الجودة الشاملة!!
---
صعيليك: الرئيس التنفيذي للتسويق والاتصالات، انفنتف ماركتنج سوليوشنز