أجواء الاحتقان السياسي والتشكيك الداخلي بين من يصنفون ب "رجال ونساء العهدين القديم والجديد" أطلت برأسها من جديد مذكرة بالسجال الذي تصدّى له الملك عبدالله الثاني شخصيا قبل شهرين عبر مقابلة صحافية على أمل تعزيز الثقة الشعبية بواقع ومستقبل الاردن.
مناخات حبلى بالنميمة والإحباط والعجز واغتيال الشخصية على وقع اصطفاف أقليات سياسية وإعلامية تسعى لتلوين الصراع بصبغة إقليمية بغيضة ما يهدد النسيج الداخلي ويؤثر على مبدأ المكافأة والمساءلة. كل ذلك يشكل استمرارا للصراع الدائر بين نهجين سياسيين واقتصاديين واجتماعيين متضادين حول المكاسب والنفوذ.
كل جهة تلوي الحقائق والمعلومات وتستعمل حججا ووقائع على أمل تسجيل نقاط وتعزيز موقفها ضد الآخر على حساب مصلحة الوطن وهيبة الحكم.
ويزيد من الطين بلّة استمرار التشابك بين "التجارة والمنصب العام" ما يفرغ شعار الإصلاح والتحديث من مضامينه السامية في زمن العولمة الاقتصادية التي وفرت فرصها استثمارية غير مسبوقة مقارنة مع حقبة الخصخصة والإصلاحات الاقتصادية التي انطلقت عام .1988
غالبية مؤسسات الدولة, بما فيها مجلس الأمة, تقف عاجزة عن وقف مسلسل تردي الأوضاع الداخلية بعد أن شارك الفرقاء خلال السنوات الماضية في إيصال البلاد إلى هذا المأزق السياسي الذي بات يتطلب خطوات حاسمة وجريئة للخروج منه, بأقل الضرر الممكن, وقبل فوات الاوان.
يفاقم الوضع انغلاق أفق تسوية الملف الإسرائيلي-الفلسطيني مع سعي الإدارة الأمريكية لإنجاز اتفاق سلام مكتوب يعلن الشهر المقبل أشبه ما يكون ب "ورقة توت" تختبئ خلفها زعامات ضعيفة في إسرائيل وفلسطين وامريكا. يضغط على المشهد المحلي المحتقن تراجع المستوى المعيشي لغالبية السكان على وقع أزمة النفط والغذاء الكونية وشح المساعدات العربية والأجنبية, ودبلوماسية ساهمت في تهميش الدور السياسي الاردني وإثارة مخاوف جديدة حول إمكانية حل القضية الفلسطينية على حساب المملكة.
تناسل شبهات الفساد بسبب التداخل "المؤذي" بين عالم البزنس مع شخصيات في الحكم بات منظارا لحالة التوتر الداخلي. وصار لا بد من وضع النقاط على الحروف والتوصل إلى توافق مجتمعي حول المسموح والممنوع في أردن القرن الواحد والعشرين.
قبل أربعة أيام أوقفت الحكومة عطاء الإشراف الهندسي على جزء من المدينة الصناعية في العقبة, الذي أحالته شركة امريكية على شركة استشارات محلية ل¯ "تعارضه" مع روح منع تضارب المصالح وقانون منطقة العقبة الاقتصادية الخاصة الذي يحظر انتفاع أقرباء مسؤولين من عطاءات ومشاريع السلطة.
يصر المكتب ومطور المدينة الصناعية - ائتلاف شركات - ومدير مديرية الشؤون القانونية ان أحالة العطاء على مكتب هندسي تعود ملكيته لزوجة المسؤول الاول لمنطقة العقبة الاقتصادية الخاصة, لا يشكل أي مخالفة لقانون العقبة الخاصة لأنه لم يبرم بين السلطة وبين المكتب, إنما بين أحد المطورين الدوليين والمكتب المحلي.
قبلها بأسابيع سحبت الحكومة إحدى الشركات الفائزة بعطاءات "سكن كريم" الذي تشرف عليه وزارة الاشغال العامة لأنه يعود لوزير الاشغال نفسه. وجرى تعديل كل الآلية لتصبح أكثر واقعية وأقل كلفة.
وهناك العشرات من التجاوزات غير المرصودة أو المتوارية خلف القانون.
يتزايد الحديث عن ارتفاع وتيرة إحالة عطاءات من مطورين عرب وأجانب إلى مكتب استشاري هندسي يخص زوجة مسؤول آخر منذ تبوأ الزوج منصبه قبل عامين. صاحبة المكتب تتباهي أمام محدثيها بأنها تملك وتدير المكتب الاستشاري الهندسي الأول في الأردن ضمن عقود قانونية مئة بالمئة.
قبل أيام, ساهم متنفذون, على ما يرشح, في تحضير المسرح لعملية مضاربة على سهم استراتيجي, وحصدوا في النهاية أرباحا كبيرة بعد أن تعرض غالبية أصحاب الأسهم لخسائر فادحة. والحبل على الجرار.
قد يكون ما قام ويقوم به الجميع قانونيا مئة في المئة, وقد يكونوا أصحاب خبرة ومهنية عز نظيرها. لكن أيا منهم لن يستطيع إقناع أي مشكك بأن ظروف عملهم وارتباطاتهم بمواقع متنفذة, واطلاعهم على كم هائل من المعلومات والخرائط السرية المحجوبة عن العامة ساعدتهم على انتزاع فرص واتخاذ قرارات استثمارية مصيرية قائمة على معطيات موثقة, وتحقيق أو تسمين ثروات لم يحلموا بها قط.
ويا ليت دائرة الأراضي توافق على فتح ملفات عمليات شراء أراض ابطالها زوجات وازواج وأمهات وأباء وابناء مسؤولين, يشترون مئات الدونمات في مواقع جذب تجاري وسكني واستثماري قادمة خارج حدود العاصمة من باب المضاربة المستقبلية, فقط بسبب حصولهم على المعلومات من المطبخ الداخلي الضيق.
المعطيات التي تقف وراء أجواء التشكيك والتربص لم تتغير منذ خطاب الحسم الملكي مع ان العمل جار على تعزيز مبدأ الولاية العامة للحكومة بطريقة تراكمية.
الجميع ينتظر المزيد من الخطوات الفعلية لكسر التوتر, محاربة الفساد المالي والاداري والسياسي وتعميق مفاهيم الحاكمية الرشيدة ودولة المواطنة والمساواة في الحقوق المدنية وفي تطبيق القانون على الجميع. الكثير منا لا يلمس التزاما عاليا بالخطوط الحمر التي وضعها الملك عبدالله الثاني قبل شهرين, وعلى رأسها الشفافية المطلوبة في طرح العطاءات, وفي اطلاع الناس على مبررات أي خطوات اشكالية قد تضطر الدولة لاتخاذها لاستقطاب رؤوس الأموال وضمان أمنها الاجتماعي والاقتصادي. وما زال الناس ينتظرون حسما ملكيا على أرض الواقع تجاه وجهة الأردن الحديث.
لا يختلف اثنان على أن رؤية الملك لاصلاح وتحديث الأردن وعصرنته ثاقبة وطموحة وتستشرف أبهى الآفاق لمستقبل الأردن ورفاه شعبه وتضع نصب عينيها مصلحة المواطن, وتمكينه بافضل المؤهلات والادوات وشبكات الحماية الاقتصادية والاجتماعية المتأتية عن الاصلاحات الاقتصادية والمالية التي يلتزم بها الملك الشاب.
إلا ان هذا الطموح الملكي النبيل والمسعى الحثيث الذي يتمحور حول انجاز هدف تحسين الوضع الاقتصادي والمالي والمعرفي والتقني للأردن وللمواطن يتطلب بالضرورة قاعدة من "الروافع البشرية" المؤتمنة على إنفاذ الرؤية والالتزام الملكي بالاصلاح والتطوير.
ولهذا يجب ان يوكل تنفيذ هذا البرنامج الطموح إلى نخبة مصطفاة من المسؤولين الملتزمين حد التقديس بحرمة المال العام والنائين بانفسهم وباقاربهم واصدقائهم عن كل مصلحة او شبهة تضارب مصالح تتعلق بأي من المواقع العامة التي يتولونها.
ولا شك ان انفاذ هذة الرؤية الملكية الطموحة يتطلب من اي مسؤول يؤتمن عليها الابتعاد ليس فقط عن أي أعمال يحظرها القانون صراحة وانما أيضا النأي بنفسه ومن يخصونه عن اي شبهة تضارب مصالح, وهي التي تشكّل الركن الركين في مفهوم المسؤولية السياسية والأدبية للمسؤول العام.
وعليه ليس مقبولا ولا معقولا بعد اليوم أن يدخل أي مكتب استشاري أو قانوني عائد لمسوؤل عام أو اي شركة يساهم بها مسؤول عام في أي نشاط له أي صلة كانت بعمل الحكومة ومؤسساتها كافة حتى لو كان هكذا مكتب او شركة مسجلا باسم اخ او زوج او ابن ذلك المسؤول. وعلى من يرغب في تولي المسؤولية العامة أن يكون قدوة وأهلا لمسؤولياتها, لا يجوز أن يمن علينا أحد بانه ضحّى بالعوائد المالية التي كان ليحققها مكتبه أو شركته ليتولى منصبا عاما مقابل راتب زهيد قياسا بما كان يحصله. ثم يتبين بعد ذلك أن مكتبه أو الشركة التي يساهم بها قد ارتفعت وتيرة تعاملاتها مع الحكومة ومؤسساتها أو برامج التمويل التنموي لمصلحة الحكومة ومؤسساتها بعد توليه المنصب. وعلى كل من توضع في عنقه أمانة المسؤولية العامة أن يصفّي طواعية كل ارتباطات تجارية له ولخاصته بشكل كامل مع المؤسسات العامة قبل أن يتولّى الموقع العام, حتى ينسجم سلوكه مع سمو غاية رؤية الاصلاح والتطوير.
فالإثراء الناتج عن تولي موقع عام يجب أن يكون خطا أحمر. كذلك ينبغي أن تكون تجليات تسمين الثروة المرتبطة بالعمل العام من المحرمات وعلى كل من يبحث عن الثروة المالية وتنميتها أن يوجه سعيه المشروع هذا بعيدا عن كل تشبيك مع العمل العام وتضارب المصلحة الذي ينشأ بحكم الأمر الواقع ما بين المسؤولية العامة وممارسة البزنس بكل مظاهرها المستترة, الظاهرة والقانونية, ولكن غير الادبية معا, والتي تستوي تبعا لذلك, في وعي الناس, مع تضارب المصالح غير القانوني.(العرب اليوم)