في اليوم التالي تماما لكتابتي (في بيتي عزاء) أقرأ في عمون عن اقتراب تنفيذ حكم الإعدام بحق المجرمة ساجدة الريشاوي.
وقد ذيّل الخبر بالعبارة التالية: (والريشاوي لا تحظى باي تعاطف محلي اوعربي جراء فعلتها الشنعاء ضد الابرياء من العرب والمسلمين ).ورغم أن مقالتي هذه قد تعرضني للاغتيال بالتصفية الجسدية من قبل الكثيرين.. أو ـ على الأقل ـ لاغتيال الشخصية بتهم تبدأ ولا تنتهي من قبل الطيبين من (الإسلاميين) في الأردن كما من قبل غير الطيبين منهم... إلا أنني وفي مقابل ( العزاءات ) التي حدثتكم عن إقامتي لها بنوعيها في غربتي ، أعدكم وعد الواثق جدا من نفسه أنني..
.. سأتصلب أمام رهبة الموت كموضوع يهزني دائما حتى عندما يكون الميت كلبا.. أتصلب أمام رهبة الموت الذي أبكاني كثيرا على من أعرف ومن لا أعرف..
أتصلب أمام عزاء ليلتي التي لم تكد تنتهي بعد، وأنا أبكي الأطفال الذين غرقوا في سيل الزرقاء ...
أتصلب أمام ذكرى عمي يوسف الذي استشهد عام 1948 وقريبي صالح عودة الذي استشهد في حرب حزيران .

أتصلب أمام الموت الذي خطف أبي في 1989 تاركا لي عائلته ..
أتصلب أمام الموت الذي حصد الملايين في فلسطين والعراق وأفغانستان وفيتنام وهيروشيما وغيرها بلا ذنب..
أتصلب أمام مرآى جثة الطفلة (إيمان حجو) التي لا تفارق مخيلتي والقذيفة التي اخترقتها في الأرض المحتلة.. وجثة الطفل (لؤي عريقات) الذي ذبحه مغتصبه ورماة في مزبلة في الزرقاء... ولم أستطع نسيان اسمه أو منظر جثته رغم مرور خمسة عشر عاما على الحادثة...
أتصلب أمام كل الأشلاء التي لملمتها بيدي هاتين أثناء خدمتي في الإسعاف الفوري.. وأهمها جثة المهندس (حسن هديب وامرأته وطفله (أنس) ابن العشرين يوما) ، تلك العائلة التي فرمها بسيارتها صهريج نفط في القطرانة في الثمانينيات.. وبها بدأ احتقان ذاكرتي مع الموت بلملمة أشلائها بيديّ هاتين اللتين لم تعودا قادرتين على كتابة بيت من الرثاء... حتى لوالدتي (علياء حماد الذنيبات) التي حدثتكم عنها من قبل.. يداي اللتان ترتعشان كلما قرأت لها قرآنا.. أو كلما قهرتني (فيروز) التي أبكتني آلاف المرات وهي تتغزل بأمي في قبرها كلما لفظت (يخرب بيت عيونك يا عليا شو حلوين)..
أتصلب... أمام جثة (أكرم الطراونة) وزملائي الآخرين الذين احترقت بهم سيارة الإسعاف هم ومن أسعفوه..
أتصلب أمام حزني الشخصي على ابني عمي (فايز فريج.. ومحمد فرج) الذين لم أحضر دفنهما...
أتصلب .. أمام (خميس بن جمعة) وهو يتابع في غربته مشاهد تفجيرات عمان.. وكارثة تسونامي.. وزلزال كشمير.. وغير ذلك الكثير..
أتصلب.. وأنا أتذكر خالي (صالح الذنيبات) الذي اغتاله رفاقه في (الدعوة) ألف مرة في الكرك.. وتآمروا عليه ألف مرة.. دون أن يشكو .. لأن محمود سامي البارودي قتلني وقتله ببيت واحد من الشعر حين قال:
(خلقت عيوفا لا أرى لابن حرّة عليّ يدا أغضي لها حين يغضب)
فعاد إلى العقبة ليتعلم البكاء من بحرها .. ولعلي أتعلم (ولو يسيرا) من صلابته التي جعلته يدفن أعز وأقرب الناس إليه ويدعو لهم على قبورهم دون أن يذرف دمعة واحدة ... غفر الله لك يا (خال صالح).. لأنك علمتني بيت البارودي (مثلك) وعلمتني أن أطيل البعاد كثيرا كي لا أطلب من أحد شيئا (مثلك) ، ولم تعلمني كيف أكون صلبا (مثلك)..
.................
أتصلب.. أمام الموت (ولو مرة واحدة)......
..... أتصلب ...
لأستطيع أن أحتفل فرحا... بإعدام ساجدة الريشاوي..
أحتفل... وأدعو الشعب الأردني العزيز أن يحتفل معي..
ليس احتفالا طقسيا..
بل أن يحتفلوا حقيقة.. بأن يسحبوا ثقتهم من قاتليهم... وممن وصفوا أشلاء أبنائهم في الفنادق الثلاثة بأنهم مجرد ضحايا... ووصفوا القاتلين بأنهم شهداء.. وطالبوا بحبس صحفييهم حين يكشفون الحقائق..
يحتفلوا ..
ويغسلوا أيديهم منهم .. ولا يزكوهم.. ولا يثقوا بهم...
Amann272@hotmail.com