في بلادنا كان الكثير من الناس يمضون جل حياتهم دون أي إسهام في الحياة العامة بحجة أنهم منقطعون للعبادة وعمل الخير الذي ينبغي أن لا يعرف به أحد. الصورة الذهنية للشخص الذي يطلق لحيته ويحمل مسواكا ويحيي كل الذين يواجههم، وقلما يشاهد في غير مواعيد الصلاة والأعياد الدينية هي أكثر الصور التي نستحضرها عن رجال الدين قبل أن يجري تسييس الدين واستخدام العقيدة لتنظيم الأفراد وتدريبهم على استخدام السلاح والتخطيط لمهاجمة أهداف بشرية ومادية وثقافية تحت شعارات الجهاد ونشر الدين وإقامة الشرع وغيرها من الأهداف والمسوغات التي تنوعت وتوالدت في العقود الثلاثة الأخيرة بسرعة غير مسبوقة.
الدين له وظائف مهمة في حياتنا فهو يتصدي للإجابة عن أسئلتنا الكبرى حول الخلق والوجود والنجاح والمصير. فبغير الدين يبقى الإنسان غارقا في محاولات الإجابة عن السؤال الذي يطرحه العقل بخصوص وجودنا "من أين جئنا؟"، ومنشغلا في البحث عن تبريرات مشاهداتنا لقصص النجاح والفشل "لماذا ننجح أو نفشل". كما قد يصعب على الإنسان تقبل الموت والمصائب والحوادث بدون تدخل الدين الذي يرى أن ذلك مقدر فيذعن الإنسان لإجابة الدين عن التساؤل الأهم "إلى أين نحن ذاهبون؟".
الدين كان ولا يزال يبعث في نفوس أصحابه وغيرهم السكينة والراحة والمحبة للناس والحياة باعتبارها نعمة من نعم الخالق الواجب الاحتفال بها وتقديرها.
اليوم يشكو العالم ونشكو نحن من تفشي الأصولية الدينية. أي انتشار وتنامي الجماعات التي تتخذ من الدين أساسا لتشددها ورفض كل نموذج أو ممارسة أو طريقة حياة تختلف مع رؤية أصحابها الذين يدعون إلى التغيير وصولا إلى نموذج الخلافة باعتباره الهدف الذي تستقر عنده الأحوال.
الأصولية الدينية تعكس نفسها على لغة أصحابها واتجاهاتهم وسلوكهم فهم منقطعون وجدانيا عن كل ما حولهم ولا يتعاطون معه إلا للضرورة دون إبداء أي تقدير واحترام للآخر باعتباره خارجا عن الملة والدين. للنموذج الأصولي أئمة وفلاسفة وشيوخ نعرف تشددهم في مذاهبهم وكتاباتهم وفتاواهم منذ أحمد بن حنبل إلى ابن تيمية ومحمد بن عبدالوهاب وحتى سيد قطب وغيره من المعاصرين.
الغلو والتطرف الذي يظهره الأصوليون والتبريرات الفقهية لسلوك الجماعة خلقت ثقافة متشددة يستلّ منها البعض مسوغات اتجاهاته المعادية للحياة والمجتمع والغير باعتبارها مخالفة للنموذج الذي يطمحون للوصول اليه. كما تشكل الفتاوى سندا لأعمالهم المعادية لكل ما هو مخالف واعتباره عملا جهاديا الأمر الذي مهّد لنشوء ثقافة منحازة للموت ومعادية للحياة.
على الجانب الآخر؛ هناك ثقافة لا تبتعد كثيرا عن هذه التصورات والتبريرات لكنها تتخذ خطابا دعائيا يمزج بين أدبيات السياسة وتفسيرات الشيوخ وأئمة المذاهب. الكثير من الدعاة الجدد يتبنون أهداف الأصوليين الرامية إلى التغيير في البناء والممارسات للدولة لكنهم يستخدمون وسائل وأدوات عصرية تقوم على الدعوة والإرشاد والوعظ والحوار. غالبية هؤلاء الشيوخ يهندسون لحاهم هندسة عصرية ويملكون قنوات فضائية ومحطات إذاعية أو يشاركون أصحابها. بعضهم يؤسس مدارس ويصنعون من اختلافهم مع المتشددين قضية تجعلهم أقرب إلى أجهزة ومؤسسات مكافحة التطرف.
الأصولية المحسنة مدرسة جديدة في العالم العربي تستخدم التراث الديني في خطابها بعد أن تطعم رسائلها التوعية بفنون الاتصال ومبادئ علم النفس وشيء من السياسة وخفة الدم المصطنعة. الشيوخ الجدد يشكلون طبقة مهمة تضع أقدامها في السياسة وتحسن استخدام المنابر ولا تهمل نصيبها من البزنس والتجارة.
العشرات من أعضاء طبقة الأصولية المحسنة يملكون محطات تلفزة وإذاعات ومدارس خاصة وجامعات وجوازات دبلوماسية وبيوتا فارهة لا تشبه إطلاقا البيت الذي كان يقيم فيه الخليفة عمر بن عبدالعزيز أو أحمد بن تيمية؛ فهي أقرب إلى قصور الأمويين.
الغد