خواطر عن فلم "اسكندرية ليه" للراحل يوسف شاهين (الجزء الأول)
فراس الور
03-08-2016 04:56 PM
هو من اخراج الراحل الكبير يوسف شاهين، و كتب السيناريو و الحوار مخرج العمل بالإشتراك مع محسن زايد (مع حفظ الألقاب)، و عرص لأول مرة في 23 آب 1979، و هو من بطولة فريد شوقي - محمود المليجي - محسنة توفيق - محسن محي الدين - نجلاء فتحي - يوسف وهبي - عزت العلالي - يحي شاهين، و قد اشترك معهم لفيف لامع جدا من الفنانين حيث تميز هذا العمل بإسماء معروفة جدا بالعالم الفني في مصر (1 راجع الهوامش آخر المقالة)،
بعض من الحيثيات عن البيئة السياسية للفلم :
ففي وسط أتون ملتهب من حروب طاحنة لم ترحم العالم بتاتا و لا منطقة الشرق الأوسط في ذلك الوقت...و في وسط تضارب مصالح دول كبرى بالمنطقة و إلتحام أكبر جيوش العالم التي عرفها التاريخ البشري على الإطلاق...كان الراحل يوسف شاهين و هو في مرحلة شبابه المبكر على موعد مع قدر قاسي ساهم في تشكيل حياته بصورة جذرية، فعاش الراحل هذا الشباب المبكر مع أسرته في خضم أحداث الحرب العالمية الثانية، كانت مصر حينها واقعة بين براثن أقوى جيوش أوروبا التي تتناحر لإقتسام العالم بأسره بين بعضها البعض، ، فمن جهة كانت بريطانيا مع ما تبقى من قوى اوروبية في مواجهة شرسة مع الجيش الألماني الذي حكمه طاغية بشع كاد أن يبتلع أسيا و اوروبا و أفريقيا لو لا أسعف البشرية التدخل الأمريكي في مرحلة متأخرة من هذه الأحداث الفيصلية، و من جهة ثانية كانت ايطاليا تحاول نيل حصتها من هذه الحملات الإمبريالية، فشنت أعنف حملاتها العسكرية بالتنسيق مع الجيش الالماني حيث شكلت مع ألمانيا جبهة عسكرية عنيفة جدا،
في حقيقة الأمر يرى المؤرخون المعاصرون بأن تمسك بريطانيا منذ عهد افتتاح قناة السويس بمصر كبلاد تحت انتدابها بصورة متكررة كان له الأثر البالغ بهزيمة الجيوش الألمانية الجرارة تحت قيادة الجنرال رومل ايروين (2 راجع هوامش آخر المقالة) في معركة العلمين الشهيرة، فبالرغم من الثورات التي كانت تندلع بأول عصر هذا الإنتداب ضد الهيمنة الفرنسية و البريطانية في مصر ثم بعد ذلك بفترة لاحقة ضد الهيمنة البريطانية و التي كانت من المفروض أن تنتهي على يد إتفاقية في عام 1936 لم تتمكن مصر من التخلص من هذا الإنتداب إطلاقا، ففي هذا العام ايضا توفي الملك فؤاد و حكم مصر الملك فاروق الأول من بعدِهِ، و كان بند من بنود هذه الأتفاقية ينص على إنهاء الإحتلال العسكري البريطاني لمصر حيث كان من المفروض لبريطانيا أن تسحب جيمع قواتها ما عدا قوة صغيرة القوام كان يفترض بها أن تحرس قناة السويس، و لكن لم يتم تفعيل هذا البند إطلاقا، و على نقيد هذا البند الذي كاد أن يُعَمِدْ مصر بإستقلال لم تكن مهيئة له إطلاقا حيث كان العالم الأوروبي مليئ بالغموض و الغوغاء السياسية و مشحون بالسياسات الإمبريالية و التوترات التي جلبتها معها بين الدول الكبرى ربطت هذه المعاهدة مصر بتحالف عسكري مع بريطانيا، فكانت هذه الإتفاقية هي السبب في إقحام مصر بالحرب العالمية الثانية و بمهاجمة رومل للكتائب البريطانية على ارضها،
في حقيقة الأمر كان رومل محارب شرس حيث ذاع صيت بطولاته الحربية في الحرب العالمية الأولة في الجيش النازي بسهولة، فَوَثِقَ به هتلر و سلمه قيادة حرسه الشخصي لفترة من الوقت، و من ثم استلم بسرعة قيادة كتائب مقاتلة بالجيش الألماني التي كانت تقاتل ضد فرنسا و حقق نصرا كبيرا لألمانيا، و من ثم سلمته القيادة الألمانية قيادة قواتها في ليبيا حيث حقق انتصارات هائلة لبلاده في شمال افريقيا، و بعد معارك شرسة شَهِدَتْ الكر و الفر بينه و بين القوات البريطانية انتصر عليهم أخيرا و وصل بقواته التي كانت تتألف من كتائب من الجيش الإيطالي و الألماني الى العلمين التي كانت تبعد 50 ميل ( 80 كيلومترا) غرب الإسكندرية، و حصل هذا في تموز من عام 1942، ابتدأ رومل الحملات بقيادته في ليبيا في عام 1941 و نجح في تموز بالوصول الى العلمين غرب الإسكندرية في تموز من عام 1942 بواسطة سرعة حملاته و استخدامه لعامل المفاجأة بحروبه ضد القوات البريطانية،
و لكن بالرغم من حنكته التي شهد لها التاريخ في إدراة معاركه الطاحنة خسر رومل حربه في العلمين ضد القوات الملكية البريطانية، فإستخدامه لعوامل السرعة و المفاجأة كانت تعطيه المجال للتقدم نحو مصر بصورة سريعة مما كان يَمْتَحِنْ قدرة جيشه بإصال الإمدادات الضرورية للمقاتلين، كما أن الطيران الملكي البريطاني كان يَشُنُ غارات دورية على خطوط الإمداد لجيشه مما جعل قواته تعاني من نقص في الوقود و الذخيرة، فكانت النتيجة حتمية...فتواجه الجيش النازي مع الخسارة القاسية و تراجع رومل الى الأرضي التونسية، فبعد أن كانت الجيوش النازية كابوس مرير للقوات البريطانية حيث أن تقدمها الى غرب اراضي الإسكندرية كادت أن تقلب موازين كثيرة بهذه الحرب الضروس تقهقرت بسبب عنفوان رومل الزائد و الغارات البريطانية على خطوط أمداد جيشه و تراجعت الكتائب الألمانية بعيدا الى الاراضي التونسية،
مما لا شك به أن الحرب العالمية الثانية التي ارتكزت احداثها بأوروبا و الشرق الأوسط و افريقيا و أسيا على ارادة الجيش الألماني و الإيطالي ضم مساحات شاسعة من اراضي تلك المناطق الى مناطق هيمنتها قد تغير مسارها بالعلمين بخسارة رومل، لم تكن هذه الخسارة السبب الوحيد للتراجع العسكري النازي بالمنطقة و لكنها لعبت دورا بارزا برفع خطر هذا الجيش الجبار عن منطقة الشرق الأوسط و شمال أفريقيا، فَسُمْعَتْ الجيش النازي بأنه جيش لا يُقْهَرْ قد اهزت بأوروبا و رفعت هذه الخسارة النازية معنويات القوات الملكية البريطانية بالمنطقة، فأن هزيمة هذا المارد النازي بالمنطقة ممكنة جدا،
شروحات عامة عن حبكة الفلم :
تحت ثقل إلتحام هذه الجيوش الكاسرة التي ما رحمت يوما خلال الحرب العالمية الثانية لا جماد و لا حيوان و لا طفل و لا إنسان و حصدت ملايين الأرواح من عسكر و مدنيين من كلا الطرفين كانت مصر و عموم ضواحيها بما في ذلك محافظة الإسكندرية ترزح متألمة من مرارة طغيان الظروف القهورية عليها، فكان الشارع السياسي منقسم بين مرحب بالجيوش النازية و مؤيد لبقاء بريطانية في البلاد، و كانت القوى الوطنية حاضرة بقوة ايضا في الشارع السياسي بالقاهرة حيث كانت تؤيد استقلال مصر عن هذه القوة المتصارعة تماما عاجلاً أم آجلاً...و بين هذه الأحداث المثيرة تبدأ أحداث الفلم الكبير "اسكندرية ليه" ليسلط الضوء على رحلة يوسف شاهين الكبيرة في الحياة و في عالم الفن، و لكن قبل أن نخوض بتفاصيل الفلم اسمحوا لي أن أنوه بأنه كان لا بد لنا من التوقف مع البيئة السياسية للفلم حيث كانت هذه البيئة من بين عدة مؤثرات لعبة دوراً بارزاً في حياة الراحل الكبير و أسرته و شخصيات الفلم، فنرى الأستقرار المادي لهذه الأسرة يضعف بسبب ظروف الحرب، كما أن بروز معارضين و مؤيدين للجيوش النازية و للحلفاء ساهم بصورة أساسية بتشكيل الحياة السياسية المحلية اثناء فترة الحرب العالمية الثانية، و استقطب هذا السجال في الشارع المصري عدد من الشخصيات في الفلم حيث نرى شخصية الباشا والد محسن من أشد المعارضين للوجود النازي في مصر، فالوجود البريطاني يشكل له صمام أمان لردع هذه القوى الغازية عن مصر، و نرى بلطجي بمشهد من المشاهد يحاول التقاط رزقه مستغلاً هذه الظروف بصورة كبيرة، فيساعد قريب للباشا من دون تردد حينما يطلب منه اختطاف جندي أجنبي من أصول نيوزلندية لمتعته العاطفية الشخصية ثم ليقتله، و لا ننسى كم كانت هذه الحرب مؤثرة في حياة أسرة يهودية تَقَعْ ابنتها بحب شاب عربي، و بالرغم من هذا الحب الكبير و إنتظار الإبنة لمولود من الشاب العربي تقرر هذه العائلة اليهودية هربا من القوة النازية السفر الى اسرائيل حيث تعتقد بأن تلك البلاد ستكون ملاذا أمناً لهم،
نرى من خلال مشاهد هذا الفلم كم كانت الحرب عامل مؤثر جدا في الحياة الفنية المبكرة ليوشف شاهين، فحينما يقرر عرض مسرحية في عشية معركة العلمين و أمام السفير البريطاني و حشد كبير من الضيوف يختار شخصية هتلر كي تكون احدا الشخصيات التي يتناولها موضوع المسرحية، فنرى اعجاب الجمهور بالمشاهد الكوميدية لهذه المسرحية حيث يترك نجاحها الإنطباع الجيد عند يحي، مما يدفعه بعد خسارة الجيش الألماني بالعلمين بتنظيم عرض غنائي مسرحي آخر، و يقوم بكل جرأة بدعوة أميرة لهذه الحفل الكبير ليكون تحت رعايتها، و نراه يطلب المسرح من مالكيه لكي يجري البروفات عليه قبل موعد الحفل و لكن ليلاقي الرفض، و نراه ايضا يتعرض لصدمة كبيرة حينما تقرر اسرته بيع البيانو الذي تمتلكه بسب ظروفهم المادية مما يجعل أمر الإستعداد للمسرحية صعبا جدا عليه،
مما لا شك به أن الفلم يضع بين ايدينا محاولات بعض من المعارضين للقوى البريطانية الإصطياد بالماء العَكِرْ، فلإتمام سؤل قلبهم بِقَلْب موازين الحرب ضد بريطانيا ينجحون بإستخدام بلطجي الحارة لسرقة حقيبة من ضابط بريطاني، و عن طريق الأوارق التي تكون بداخلها يكتشفوا تفاصيل سرية جدا حول توقيت زيارة رئيس الوزراء البريطاني الأسبق ونستن شرشل لمصر، و يحاولوا جاهدين تنفيذ مخططهم بإغتياله و لكن من دون جدوى لينتهي المطاف بصديق لهم بالسجن، فتكون نهاية مساعيهم غير مجدية إطلاقا...
فلم اسكندريه ليه يضع المُشَاهِدْ بالإطار الطبيعي للبيئة التي نشأ بها يوسف شاهين اثناء شبابه المبكر و خلال المراحل الدراسية الى أن نجح بعد جهد كبير بالسفر الى أمريكا، فنرى بشاعة الحرب و ما فعلته بمصر عموما من خلال معاناة أسرته و بعض من جيرانه، و الفريد بالموضوع بأن الفلم شامل الرؤيا بحيث نرى الحرب من خلال عيون العسكر الأجانب الذين يقيمون بمصر ايضا، فيقدم الفلم علاقة آنية و وقتية تنشئ بين الرجل قريب الباشا الذي طلب قتل جندي نيوزيلندي و بين الجندي الذي تم خطفه لهذه الغاية، فيعطينا الفلم الفرصة لنتعرف على ما يخالج وجدان هذا الجندي الأجنبي من أفكار بعد ان يقرر قريب الباشا مسامحته باللحظة الأخيرة،
إن فرادة الحبكة بهذا الفلم هو قدرة المخرج و الكاتب الكبير يوسف شاهين مع الكادر الفني على تجسيد مرحلة من مراحل حياته التي تميزت بالتوتر و قلة الإستقرار بسبب الظروف السياسية من خلال شخصية البطل يحي و الأحداث التي أحاطت به و بأصدقائه و زملائه و بعض من جيرانه بالحي، فمنذ نعومة أضفاره و قد شعر بميول قوية في داخله تجاه عالم السينما و الدراما، و قد كافح لتبقى على قيد الحي في داخله، و رغم نكسة العرض المسرحي التي لَحِقَتْ به إلا بأنه لم يفقد الأمل..فقد سعى بصورة دؤوبة على البحث عن فُرَصْ للإستثمار بموهبته، فحينما أتته فرصة السفر الى أمريكا جاهد لِيُقِنَع أهله رغم رفضهم في بادئ الأمر لفكرة السفر، فشعروا بأن تكاليف هذه الرحلة غير متوفرة معهم و بأنها طموح اكبر من امكانايتهم بكثير، و لكن بعد نجاح والدته بإقناع زوجها بجدوى هذه الرحلة نرى الأب بلحظة حنونة يَرِقُ قلبه على أبنه و على طموحه المهني فيساعده بإتمام متطلبات السفر، فانتهت احداث هذا الفلم بسفر يحي الى أمريكا عبر باخرة ركاب إنطلقت من الميناء و بجيبه مبلغ بسيط من المال يكاد أن يكفيه مصروف ليوم واحد،
في حقيقة الأمر لا يسعني إلا و ان أنوه بأن "اسكندرية ليه" يعرض بداية قصة كفاح يوسف شاهين الرائعة و الفريدة، فهو فلم يشكل الجزء الاول من رباعية ذهبية مُبْدِعَة وُلِدَتْ على يدي مارد محترف قدم لنا الكثير من الأعمال الناجحة، فَيُقَدِمْ من خلالها بداية لمشوار طويل ابتدأت تفاصيله في التَبَلْوُرْ في أَوًلِ مشاهد هذا الفلم و توضحت أكثر من خلال أحداثه الشَيِقَة و اكتملت في نهاية الفلم بسفر يحي الى بلاد الفُرَصْ...أمريكا، فمما لا شك به أن رسالة هذا الفلم مهمة جدا برفع معنويات الشباب لتحقيق طموحهم، فبعد ان حكم عليه أهله بالفشل بعد الأمسية التي لم يُوَفًقْ بتقديم فقراتها امام الأميرة اجبروه على العمل في بنك ظناً منهم بأن هذا أَيْسَرْ ليحي من السعي وراء سراب الفن...و لكن البطل هنا أخذ القرار بضرورة سعيه ليحقق طموح حياته الوحيد...مما يجعلني أطرح تساؤلا مهم...لو استمر يوسف شاهين (يحي) بالعمل في البنك لكان موظف عادي غير مُتَمَيِزْ بأي شيئ مهني، فحتى حياته المهنية كانت ستكون مملة جدا و عبارة عن روتين قاتل...أما بمقارنة مع ما قد جرى فقد درس ما احب بكل مصداقية لذلك سار بدربه المهني بِتَمَيُزْ...عمل بمهنة أحبها من قلبه لذلك أمكنه العطاء بتميز كبير...لذلك احترم جدا ما طرحه هذا الفلم من قصة نجاح و كفاح لهذا الرجل العظيم الذي شَرًفَ اسرته و بلده مصر و وضع علم مصر مع البلدان المنتجة بعالم الفنون و الدراما...بل سار فريدا بإبداعه الذي صقلته الدراسة و الممارسة الى أن لفت إنتباه رؤساء دول اوروبية و المجتمع العربي و الدولي، فبصدق احسد كل من استطاع العمل معه و الإحتكاك بعبقريته النادرة...يتبع