الريس عمر حرب ولزوم ما لا يلزم
29-08-2008 03:00 AM
الجرأةُ التي اتَّصف بها فيلم " الريس عمر حرب " بما احتواه من مشاهد ساخنة وإيحاءات غريزية تعدت حدود المقبول ، وجعلته يوصَفُ بأنهُ أكثر الأفلام جرأة في تاريخ السينما المصرية ، هذه الجرأة تبدو أقل شأنا بكثير من جرأة الفكرة الأساسية للفيلم ، والرؤية التي حاول العمل أن يقدم من خلالها تصوره لقضايا الوجود الكبرى ، وثنائية الله والإنسان ، وما بين ذلك من عوالم وأحداث .
فكرة الإنسان مسيرا بين جنبات الكون وخاضعا لشروط اللعبة من حيث يدري أو لا يدري ، هي الهاجس الذي طالما راود الإنسان ، وتمحورت حوله اتجاهات التفكير وعبقريات الزمان .
غير أن ما قدمه الفيلم مختلف قليلا عَبْرَ خلطِهِ أوراقَ اللعبة من جديد ، ومُحاولتِهِ إلغاءَ المسافة الفاصلة بين كَوْنِ الإله إلها ، والإنسان إنسانا ، والشيطان شيطانا . المسافات الملغاة تتجلى بوضوح في شخصية الريس عمر حرب ، المتعالية والقادرة على إمساك خيوط اللعبة بدقة وإحكام .
الملفت في الشخصية تجسيدها لبعض سمات الألوهية وسلوكها منهج ( الإصطفاء ) عبر وضع خالد – الشاب الذي يعمل في الكازينو – تحت مجموعة من الإختبارات ومراقبة سكناته وحركاته .
الريس خلال هذا كله يصنع الاحداث ويبرمج الشخوص فيرسم لهم أدوارا يؤدونها بدقة متناهية ، وَيَمُدُّ خالدَ بنصائح وفلسفة خاصة تحتوي في داخلها توصيفا ( من وجهة نظر المؤلف ) للذات المتعالية التي تَسُنُّ القوانين لتقيِّدَ بها الضعفاء وتحمي الاقوياء .
الريس عمر حرب كان بإمكانه أن يكون عازفا مبدعا يملأ العالم جمالا ورقة ، لكنه اختار أن يكون قويا وأن يَنْفُذَ إلى الناس من خلال خوفهم حينا وجشعهم حينا آخر ، مؤكدا أن شعور أي شخص بالأمان الحقيقي لا يتحقق إلا تحت جنابه هو ( الريس ) وضمن سلطته ، واصفا هذه السلطة بأنها أعلى ما تطمح إليه الذات وتزهد عند بلوغها إياها بكل شيء آخر ، بالمال والولد والزوجة وما سواها .
في المشهد الأخير يتركك الفيلم حائرا تجاه شخصية الريس التي تقترب بتسلطها وجبروتها من حدود ( الشيطنة ) ، فيتكون لديك تجاهها شعور مزدوج هو مزيج من الخوف والإنبهار ، ويُجْبَرُ خالد بالنتيجة على الرضوخ للريس وقبول عبوديته والسير تحت إمرته المطلقة . الريس في هذه اللحظة قد يكون إلها أو شيطانا ، أو كليهما معا ، هذا ما تريد القصة أن تقوله ، وهذا كذلك ما لا يهمك ما دمت مجبرا على أن تكون تحت إمرته ، وتحقق ذاتك عبر الاستماع لإرشاداته أو وسوساته .
أنت جزء من نظام العالم ( الكازينو ) فلا تملك تجاهه إرادة من أي نوع كان ، محاولتك الإختيار والخروج من ربقة الريس مدعاة لدخولك دوامة الخطر وتعرضك للمهانة وأشد انواع العذاب .
قضايا قلقة تلك التي حاولت القصة ان تدور حولها ، مصدر القلق هذا هو ذات الكاتب وليست ذات المكتوب عنه . فأن يتجسد العالم خاليا من إرادة الإنسان خاضعا لقوة مغرمة بالسلطة والجبروت ، يستوي في ميزانها الخير والشر ، هذه النظرة في أحاديتها وسوداويتها تخلط خلطا واضحا بين ذات الإله القادر المتعال من جهة ، والإله الرحيم الغفور من جهة أخرى ، وكلاهما واحد بطبيعة الحال .
المنهج الذي حاولت القصة أن تقدمه عبر شخصية الريس عمر حرب لا يتلاءم وما مُنِحَهُ الإنسان من قدرة على الإختيار ومسؤولية مطلقة عن أفعاله كلها . بل إن دمج الجانبين ، جانب الألوهية وجانب الشيطنة ، في شخصية واحدة ، هو تخبط عقائدي فاضح ، وعودة إلى الأفكار الجبرية القديمة التي ظهرت في القرنين الثاني والثالث للهجرة ، وهو هروب من مسؤولية الإنسان عن أفعاله ، وفهم خاطيء لسنة الله في الكون والإنسان .
الفن رسالة مرتبطة دائما بفهم ما لقضية من قضايا الوجود ، فإن شذَّ الفهم أو سلك منهجا خاطئا ، انقلبت الرسالة قلقا ومعولا هداما للعقل والتفكير . قديما فَصَّلَ أصحاب الذوق والمشاهدة مراحل الإدراك عند الانسان فتسلسوا بها إبتداء من المحسوسات وصولا إلى التمييز ثم إلى العقل والإدراك ، أما ما بعد ذلك فهو مجال الصفاء والمكاشفة . كل إنسان مكلف بحسب مرتقياته ومداركه في عالم الشهادة ، أما عالم الغيب ومحاولة تفسير ما لايُفَسَّرُ من ظواهر الكون ومجرياته فهما المجال الذي تزل فيه الاقدام وتقصر دون بلوغه الأفهام . الإنسان في كل الحالات كادح إلى ربه كدحا فملاقيه ، وما بين الجبر والإختيار يكمن سر عظيم ، هو فوق طاقة أهل الصفاء والمكاشفة ، فما بالكم بمن هم دون ذلك بمراحل .
samhm111@hotmail.com