في تراثنا العربي أقوال ومأثورات شعبية تعبر عن خلاصة التجربة التي عاشها الأهل أو توارثوها من جيل إلى جيل. مجموع هذه الأقوال والأمثلة والحكم والقصائد والأحاديث تشكل مخزونا معرفيا يجري تعلمه في المجالس والتفاعلات اليومية التي تنشأ بين الأفراد والجماعات في المناسبات والمواقف التي تستدعي استخدامها.
لقد حاول الأوائل أن يصبغوا على الموجودات والأمكنة والأوقات والمواقف صفات تساعد الأفراد على التعرف عليها وعلى خصوصيتها وطبيعتها وتمكنهم من الاستعداد للتعامل مع هذه الأشياء والتنبؤ بما يمكن أن يصادفوه في حالة مواجهتها للمرة الأولى. فقد وصف العرب أشهر السنة بأوصاف تشخص أحوالها وطبيعتها كقولهم "في تموز بتغلي المية بالكوز" أو وصفهم لشهر آب بالقول "آب اللهاب" وغيرها من الأحكام المستندة إلى الخبرة الطويلة والمعايشة الحسية.
نتائج القياسات التي تأخذها موازين الحرارة لدرجاتها تعكس صحة الأقوال وتطابقها في كثير من الأحيان مع القياسات، فغالبا ما تتخلل هذه الأشهر موجات من الحر تجعل من الصعب أن يحتمل أحدنا التعرض للشمس دون أن يصيبه الأذى أو يشعر بالضيق والإجهاد الحراري وربما ضربات الشمس ذات الخطورة والآثار المتعددة على الصغار والكبار.
التنبؤات المناخية تشير إلى توالي موجات الحر وإلى إمكانية مواجهتنا لصيف لاهب في هذا العام والأعوام القادمة؛ فمنذ بداية حزيران وخلال تموز وفي الأيام القادمة ستكون درجات الحرارة فوق معدلاتها السنوية، الأمر الذي دفع بدائرة الأرصاد إلى تحذيرنا من التعرض المباشر لأشعة الشمس والإكثار من شرب السوائل وغيرها من الإرشادات التي أصبحنا نعرفها في مثل هذه الأحوال.
لا يملك أحدنا وهو يتنقل في شوارع عاصمتنا ومدننا الأردنية أن يتجاهل العشرات لا بل المئات من باعة المواد الغذائية الذين أوقفوا سيارات النقل المحملة بالفواكه والخضار وعرضوا محتواها من صناديق الفاكهة تحت لهيب الشمس الحارق. المشهد الذي أصبح مظهرا من مظاهر الطرق الخارجية والشوارع الرئيسية ودخلات الأحياء وعند بوابات المساجد، حيث يبدو الباعة وكأنهم يحمّصون أو يشوون المنتجات الغذائية التي تمضي ساعات طويلة تحت درجات حرارة يصعب احتمالها.
الانطباع الذي يخلقه الباعة المتجولون لدى الزبائن المحتملين من أنهم يقدمون بضاعة ذات جودة عالية بأسعار أقل يغري البعض لشراء كميات تفوق حاجتهم الفعلية ويدفعهم للتغاضي عن حقيقة أن المواد أمضت ساعات وربما أياما تحت حرارة الشمس التي حدّت من جودتها وصلاحيتها وربما أفسدتها تماما.
في الثقافة الأردنية ما تزال إجراءات حفظ بعض أنواع الاغذية والتأكد من طرق عرضها ومستوى صلاحيتها غير واضحة للمنتج والبائع والمستهلك، فمن السهل أن تتوالد محطات العرض والبيع للأغذية والمنتجات الزراعية على جنبات الشوارع وبوابات المرافق العامة والأماكن المزدحمة دون أن تلتفت لها أي من الجهات الرقابية او تتجاوزها دوريات التفتيش لأسباب غير معروفة.
قبل أيام وخلال موجة الحر السابقة شاهدت أحد الباعة الذي يعرض كميات كبيرة من بيض المائدة على جانب أحد الشوارع المؤدية لمؤسسة الإذاعة والتلفزيون، وقد صدمني مشهد البيض المعروض للبيع تحت لهيب الشمس الحارقة، ما دفعني للتساؤل إذا ما كان هناك من شخص يقبل أن يقدم لأسرته بيضا أمضى ساعات وساعات تحت شمس تموز.
أعلم أن هناك عشرات إن لم يكن مئات القضايا الأخرى التي تحتاج إلى اهتمام هي الأخرى لكنّ إهمال موضوع صحة وسلامة الغذاء قضية أمنية وصحية وإنسانية وإدارية وإخلاقية تهم الجميع وتلقي بالمسؤولية على كل الجهات الرقابية والصحية والتنظيمية. فالمواطن يستحق منا الرعاية والاهتمام، والأمن لا يتوقف عند ملاحقة من يرتكبون أفعالا خارجة على القانون بل يمتد لملاحقة كل الذين يعرّضون صحة وسلامة وأمن الناس والمجتمع للخطر.
الغد