هذه هي المرة الاولى التي يستهدف فيها تنظيم داعش الارهابي “ كنيسة “ في اوروبا , كما انها المرة الاولى التي يستخدم فيها “ الذبح “ بالسكين ضد ضحايا ابرياء خارج اطار عالمنا العربي , ( استخدمها في سوريا والعراق وليبيا) , وللمرة الاولى ايضا يستعجل في تبني العملية واعلان مسؤوليته عنها , هذا يعني اننا امام تحولات جديدة في سياقين : احدهما يتعلق بهذا التنظيم الارهابي الذي اضاف الى شعاره المعروف “ باقية وتتمدد “ كلمة جديدة وهي “ تتجدد “ من حيث الاهداف والادوات والرسائل , والسياق لثاني يتعلق بالدول المستهدفة “ خاصة اوروبا “ التي ثبت انها فشلت امنيا في مواجهة هذه العمليات , حيث شهدت كل من فرنسا والمانيا اربع عمليات في اسبوعين , وفشلت ايضا في وضع مقاربات سياسية وفكرية واجتماعية لتطويق هذه الظاهرة ومواجهتها .
حين ندقق في هذه المعطيات نجد ان داعش تصرفت عن “تعمد” وتخطيط حين اختارت الكنيسة كهدف , وحين اختطفت من بداخلها كرهائن , وذبحت بالسكين احد الرهبان , كما تعمدت استخدام احد المراقبين امنيا لتنفيذ العملية مع شخص اخر , متحدية بذلك الاجراءات الامنية التي يفترض ان تكون حازمة ضد شخص يخضع لمراقبة دائمة , اما لماذا فعلت ذلك , فاعتقد انها ارادت ان تبعث بثلاثة رسائل , الاولى هي ان الصراع بينها ( وبالتالي المسلمين الذين تزعم انها تمثلهم) , وبين اوروبا والغرب ليس صراعا سياسيا فقط , وانما هو صراع ديني في الاساس , واستهداف الكنيسة ليس رسالة الى فرنسا فقط انما الى “الكاثوليك” والمسيحيين في الغرب ،وهي تحاول بذلك استدعاء “ التاريخ “ المزدحم بمثل هذه الصراعات الدينية لتحقيق هدفين : احدهما استقطاب المتطرفين , والمتحمسين لمثل هذه المفاصلة , التاريخية لتجنيدهم لصفوفها واقناعهم بفكرتها , والثاني منح اليمين المتطرف في اوروبا فرصة للوصول الى السلطة بما يصب في مصلحة داعش اخيرا , اذ ان وصول هذا اليمين سيدعم الفكرة التي تروج لها داعش وهي العداء التاريخي بين الاسلام والمسيحية او المسلمين والغرب , وبذلك يكون التطرف في خدمة التطرف , وتتحول المواجهة الى صراع مكشوف , يكسب فيه الارهاب مشروعيته او ينتزعها بالامر الواقع .
اما الرسالة الثالثة فهي رسالة ( القوة والتحدي) ومن خلالها تريد داعش ان تؤكد لاوروبا ( خاصة للدول المشاركة في التحالف ضدها ) انها على الرغم من الحرب التي يعلنها العالم ضدها باقية وتتمدد , ليس من خلال جذب جنود جدد , وانما ايضا من خلال اختيار هؤلاء “ الجنود “ من حيث مقدرتهم على اختراق منظومة الامن واستخدامهم لوسائل غير متوقعة واختيارهم لاماكن متنوعة , وربما تعكس عملية نيس والكنيسة في فرنسا “ نوعية “ هذه المواصفات للاشخاص والادوات معا , وفي رسالة ( التحدي ) هذه تهديد مباشر لاوروبا الحائرة بين ثنائيات : الامن والحرية , واليسار الديموقراطي واليمين المتطرف , والحائرة ايضا في التعاطي مع ملفات الحرب والصراع في منطقتنا , على الصعيد السياسي والعسكري على حد سواء .
تبقى الرسالة الثالثة وهي ان داعش لم تعد تعتمد على الاعضاء الذين تستقطبهم للتنظيم وانما اصبحت ( ملهمة ) لاجيال من الشباب , وسواء اكانوا مسلمين او اتباع لديانات اخرى ، مقيمين هنا في المنطقة او خارجها , فانهم يمثلونها ويقتلون باسمها , وحتى لو لم تتبنى العمليات التي يقومون بها فانها تباركها باعتباره “ استجابة “ لنموذجها وباعتبارهم شركاء لها في مهمتها الارهابية , وهذا الالهام الداعشي يشكل تهديدا خطيرا للسلم العالمي , وللاوروبيين تحديدا , لانه لا يمكن لاي جهاز امني ان يصمم دليلا يتضمن مواصفات الارهابي او ان يتوقع المكان الذي يستهدفه والادوات التي يستخدمها .
الان امامنا سؤالان : الاول هل وصلت رسائل داعش لاوربا ومعها العالم والينا نحن..؟ والثالني هل نتوقع استقبال رسائل جديدة في المستقبل تفاجئنا وتصدمنا ايضا , اترك الاجابة على السؤال الاول لمن يهمهم الامر , اما الاجابة على السؤال الثاني فهي : نعم ، سنكون على موعد مع عمليات نوعية بعد ان نجحت داعش في عولمة الارهاب , وسنكتشف ان هذا الوحش الذي ساهمنا في صناعته ( اقصد العالم كله ونحن في العالم العربي جزء منه ) خرج عن السيطرة وتمرد على صنّاعه ومروجيه , واذا كانت هناك ارهاصات لحرب عالمية ثالثة فان داعش هو المرشح الاول لاشعال فتيلها في هذا العالم.
الدستور