نتيجة التعاون المسبق والدفع النقدي والقوة المالية صار من المألوف عندما يذهب تاجر التجزئة (المقتدر) إلى تاجر الجملة (المعروف) أن يلقى ترحيباً واسعاً وابتسامة عريضة منذ الخطوة الأولى في عتبة المحل..ثم يأمر أحد عمّاله أن يحضر كرسياً مريحاً للصديق ،و يتناول «ريموت« المكيّف من الدرج ويقوم بتشغيله وتوجيه الشفرات على الزائر، المهم كل هذا وعبارات الترحيب لا تنقطع «أهلاً وسهلاً..أهلاً ..أهلا..أهلاً..يا رجل والله بحبك« ويبدأ تاجر الجملة بكيل المديح لعميله والتودد لوجهه السموح ثم يسأله عن الضيافة، وعن مشروبه المفضل، ثم يأمر موظفاً آخر بإعداد فنجان قهوة أو يرمي عليه ديناراً ورقياً ليحضر «علبتين بارد« ولا يتوانى بعدها بالسؤال عن أحوال زبونه الدسم والحركة التجارية و «محمد الله يخليه بأي صف صار« ؟ ومن هذه المجاملات ..وفي الجانب المادي ..إحنا بظهرك، المحل محلك، اللي عندك قريب، تهكلش هم المصاري..حمّل بضاعتك وروح...طبعاً كل هذا التقدير في التعامل والتسهيلات لأنه يعرف أن زبونه في وضع مالي مريح و طمعاً في الفاتورة المستترة في جيب الزائر والتي ستؤمن ربحاً واستفتاحية «محرزة« لذلك اليوم..
تاجر التجزئة يعتقد - المسكين- أن تاجر الجملة يحبه دون سواه من التجار، وانه فعلاً مسنود من قوة تجارية أكبر ، ويتوهّم للحظة انه فعلاً لو ساءت الظروف واضطر للاستدانة أو الميل قليلاً على مصدره..فان الآخر سوف يدعمه ويضخ سيولة وبضاعة ومواقف إلى ما لا نهاية حتى يصلح حاله ويتجاوز ظرفه السيء...وهذا ما لا يحدث أبدا..
فعند سماع التاجر الكبير أن زبونه أفلس أو تعثرت تجارته و«شيكاته« بدأت ترفض من البنك ويحتاج إلى دعم مادي..سينقلب الحال..أول ما يشاهد زبونه المتعثر يقطع الخطوة الأولى في عتبة المحل.. يأمر احد عماله بإخفاء الكرسي ،ويخرج الريموت من الدرج ليطفئ المكيّف، ويدّعى صوم «6 شوال«..ويبقى يتابع «طيور الجنة« دون أن يفتح فمه بكلمة واحدة..وعند الطلب المساعدة أو الوقوف إلى جانبه فإن تاجر الجملة لا يعرف الا هذه الجملة «ما ينعزّ والله يا خوي«!!..
المجتمع الدولي يتعامل بنفس الطريقة...عند الساعة الأولى للانقلاب الفاشل في تركيا ، كل الدول وعلى رأسهم أمريكا أبدوا «قلقهم« من الاضطرابات في تركيا...مع أن الحكومة التركية كانت بأمس الحاجة لدعم المجتمع الدولي لها ورفض الانقلاب..مع ساعات الفجر ووضوح الرؤية وفشل الانقلاب ونجاح الحكومة التركية في استعادة السيطرة ، سارع المجتمع الدولي ليدعم «الشرعية« ويدين الانقلاب..وهذا نفاق ما بعده نفاق..فحصان المصلحة هو الذي يقود عربة المواقف لا المبدأ ولا الديمقراطية التي يدعون اليها...
في مصر حدث نفس الشيء، في أول ثورة يناير على نظام مبارك والذي كان قوياً متماسكاً في أول أيامه، أرسلت أمريكا مبعوثاً إلى القاهرة وصرّح من هناك ان البيت الأبيض يدعم مبارك..وعندما توسعت المظاهرات وخرج الشعب المصري عن بكرة أبيه إلى الشارع دعا البيت الأبيض مبارك إلى التنحي وبدأت امريكا تبارك المظاهرات...ثم بعد الانتخابات الأولى في مصر باركوا لمرسي وابدوا دعمهم له وللشرعية، ثم أبدوا قلقهم، ثم باركوا انقلاب السيسي وأبدوا شرعيته ودعمهم له ...اذا كما تلاحظون المجتمع الدولي هو «تاجر« جملة كبير يهمه «فواتير« الأسلحة والمصالح ولا يهمه غير ذلك...
وهذا درس لكل من يتكئ على صدر غيره من القوى العظمى وينام قرير الحكم انه حليفها أو حبيبها أو حليبها.. ففي لحظة الجد ينفضوك من حمايتهم ، والكل يتخلّى عنك..ويبقى الرصيد الذي يرجح الكفة «الشعب«...ما دام جراب الوطن مملوءا بهتاف وحناجر الشعب فأنت السلطان وأنت شهبندر «القرار«..
الراي