البخيت في الاذاعة والتلفزيون
د. محمد المناصير
31-03-2007 03:00 AM
كنت قد نشرت مقالا في الصحف الأردنية ، اثر زيارة دولة الرئيس الأسبق عبد الرؤوف الروابدة لمؤسسة الإذاعة والتلفزيون بعنوان " الاستنقاع الإداري " وقد استعرت هذا التعبير من دولته ، الذي شخص مرض الإعلام الأردني انذاك . فما أشبه اليوم بالبارحة ، فقد شرف دولة الرئيس البخيث هذه المؤسسة بزيارة عمل ، فكلاهما صاحب دولة ، وكلاهما زار المؤسسة بعد كبوة كبرى في هذا الجهاز الهام ، الذي يشكل صوت وصورة الملك والوطن . هذا الجهاز الذي يشكل جيشا آخر وخطا ثانيا للدفاع عن الوطن . مع فارق أن الكلمة أقوى من الطلقة . فالإعلام هو الصورة الواضحة للوطن ، فمن يعرف مكونات الوطن يستطيع أن يشكل عناصر الإعلام ، ليرتفع البناء الإعلامي الذي يعتبر جسما حيا ، بعينين يشكلان الصورة وشفتين يطلقان الكلمة الحية المعبرة .
لقد احسن دولة الرئيس البخيت استخدام العبارات والكلمات ، التي لخص بها الفترة المشرقة للإذاعة والتلفزيون ، فاستمعنا إليه مشدوهين بسعة معرفته واطلاعه ، وبذكائه المتوقد وقدرته على التحليل والمقارنة ، فقد حدد موضع الخلل وطالب بان تستعيد المؤسسة دورها ومكانتها المرموقة ، لمجابهة المستجدات والتحديات الإعلامية والثقافية وتحديات الرقمنة والعولمة . وقد سعدنا وأعجبنا بمعرفته بأدق التفاصيل عن مؤسستنا ، وبتوجيهاته المسؤولة ، التي ستبقى مع الأيام نبراسا يهدي السائرين على طريق الإعلام الحر الواعي ، والحرية التي ليس لها سقف إلا السماء كما قال دولته . بهدي من لدن صاحب هذا الشعار الحي جلالة الملك عبد الله الثاني بن الحسين المعظم .
لقد كانت الإذاعة الأردنية من أوائل الإذاعات العربية الرائدة ، فقد ولدت في ظل غمار الحرب العربية الاسرائلية الاولى حرب عام 1948 ، اذا تمكن جنودنا البواسل بالتعاون مع بعض العاملين العرب في اذاعة القدس تحت الانتداب البريطاني ، بنقل معدات الاذاعة بعيدا عن ميدان القتال الى مدينة رام الله . فانطلقت الإذاعة على الفور من الجزء الهام من فلسطين الذي تمكن جيشنا من انقاذه ، انطلقت الاذاعة باسم " الاذاعة الاردنية الهاشمية من القدس " عام 1948 ، ثم أقيمت إذاعة عمان عام 1956في جبل الحسين، باسم " إذاعة المملكة الأردنية الهاشمية من عمان ، وقد أكد جلالة المغفور له الملك الحسين طيب الله ثراه ، في كلمة عبر أثيرها ؛ على أن انطلاق هذا الصوت العربي الحر سيكون للمنافحة عن حياض الأمة ، ولدفع العاديات عن الوطن. وقد كانت تلتقي موجتا الإذاعتين باسم " إذاعة المملكة الأردنية الهاشمية من عمان والقدس ،. ثم ما لبث أن افتتح الحسين الباني استوديوهات الإذاعة في أم الحيران وإرسالها المتطور في طريق ناعور عام 1959 . وقد ساهمت الإذاعة منذ فجر عهدها في النهضة العربية ، وحملت مشعل ومبادئ الثورة العربية الكبرى ، وخاضت غمار معارك الأمة إلى جانب الأشقاء في معارك التحرير والاستقلال وفي حروب الامة المصيرية , حتى انه عندما أعطبت إذاعة القاهرة إبان العدوان الثلاثي على مصر عام 1956انطلق صوت مصر من أثير عمان معلنا وحدة الهدف والمصير والوقوف في خندق الأمة وبقي كذلك دائما . وفي عام 1969 أعلن الحسين انطلاق التلفزيون ليعزز الصوت بالصورة . ليوضح صورة الأردن بعد أن حاز جيشنا الانتصار في معركة الكرامة عام 1968، واعد للأمة ثقتها بنفسها ، فرفع الحسين صوته الأبي ، قائلا للأمة العربية : اليوم ستسمعون عنا ، وليس منا ، ورفض جلالته وقف إطلاق النار إلى أن يتمكن الجيش الأردني من تحرير آخر ذرة تراب وقف عليها جيش العدو ، وحطم فيها أسطورة الجيش الذي لا يقهر .
وفي بداية السبعينات أصبح الإعلام الأردني منارة هدي ومدرسة إعلامية يعتد بها في العالم العربي ، خرجت الأفواج التي حملت مشعل الإعلام في مختلف أصقاع الأرض من شبابنا الذين امتهنوا حرفة استخدام المايكروفون وسحر الكلمة الصادقة . وفي 1974 كان التلفزيون الأردني أول تلفزيون ملون في المنطقة ، مما عزز صورته وأعطاه دفعة إلى الأمام . وكانت محطة الاقمار الارضية في البقعة قد سبقت العالم العربي في الاستقبال الفضائي والنقل الحي ، فكان تلفزيوننا ينقل الينا مباريات محمد على كلاي وسهرات كوكب الشرق ومختلف احداث العالم على الهواء مباشرة ، مما جعل محطتنا تصبح محط الانظارللعرب في كافة اقطارهم ، وحمل تلفزيوننا عبء الإنتاج لأروع الأعمال الدرامية العربية، والبرامج الوثائقية والمنوعة في الوطن العربي، فخرج جيشا من النجوم العرب انطلقوا في بدايتهم الفنية من عمان . وأصبح تلفزيوننا مركزا هاما من مراكز الإنتاج الإعلامي .
وقد ارتقى اعلامنا مع الزمن الى ان أصبح محط أنظار العالم بأسره إبان حرب الخليج الثانية . وأصبح المصدر الوحيد الموثوق في العالم للأنباء بكافة أشكالها في تلك الفترة ، فقد كان اعلام دولة يتميز بحرفية خاصة ودقة وموضوعية قل نظيرها .
الا ان اذاعتنا وتلفزيوننا خاصة فقدا هذه الموضوعية والحرفية ، في خضم الاستقواء على هذه المؤسسة الاعلامية ، واستقدام مدراء من خارجها هبطوا بالمظلات الى ارضية لم يألفوها وجو لم يعتادوا عليه . وقد جاء تشكيل مجلس ادارة لهذه المؤسسة ليصبح " القشة التي قصمت ظهر البعير" ، ففاقد الشيء لا يعطيه ، فمن اين لهؤلاء الذين عينوا من مختلف القطاعات ان يتعرفوا على خبايا العمل الحرفي في هذه المؤسسة ، وهم لا يدخلوها الا يوم الاجتماع المسائي ، ولا يلتقوا الا مع الادارة التنفيذية ؟؟؟ . فقد اصبح اهتمام مجلس الادارة منصبا على الشكليات والمتابعات الادارية فقط ، ليكون مصيرها الحفظ والنسيان ، ما لم يتبناها المدير العام التنفيذي ، الذي اصبح يمارس ديكتاتورية قل نظيرها ، حتى ان احدهم استغنى عن ثلث الكادر الوظيفي المؤهل باخراجهم من المؤسسة ، فاصبحت خاوية الا من التعيينات التنفيعية على ما كان يسمى بالفئة الرابعة ، واصبحت الهبات والعطايا هي السمة الغالبة في هذه المؤسسة ، على منوال : أعطه ألفا يا فتى ... وزده ألفا أخرى ، فضاع الإعلام الحرفي وفقدت المصداقية ، وعجز اعلامنا التلفزيوني والاذاعي عن الاقناع ، لدخول طاقم من غير المحترفين في صلب العمل ، خاصة وان المسؤولين عجزوا عن ايجاد استراتيجية اعلامية تنسجم مع فكر القائد ، ودور الوطن التاريخي ، ومتطلبات الثقافة والاقتصاد ، في ظل العالم المتغير، إبان انتهاء الحرب الباردة وانهيار النظام الثنائي القطبية ، والتحول نحو عالم الاستقطاب الاحادي والعولمة الثقافية والمعلوماتية ، فلم يستطع هذا الكادر المهني من فهم ما يدور حوله . الى ان جاء من يبيع محطاتنا التلفزيونية الثانية والثالثة ويؤجرها ، في غفلة من الزمن ، كما جاء من الغى محطتنا وقناتنا العربية الاردنية التي كنا نعتز بها ، والتي لم يبقى منها الا اسمها المدون الى اليوم على الباب الرئيسي للتلفزيون ، وكذلك الحال اذاعتنا المسماة " البرامج العربية الموجهة من عمان " ، التي كانت تربط الوطن بابنائه في الخارج برابط الانتماء والتواصل مع الوطن ، والتواصل كذلك مع العرب في كل مكان .
وقد تمكن الشرفاء في هذه المؤسسة من حمل مشعل استعادتها لدورها ، الا ان سياسة الحكومات بقيت تعمل على استيراد الكفاءات الادارية لمؤسسة الاذاعية والتلفزيون ، والذين لا ينقصهم شيء سوى المعرفة الحقة بهذه المهنة ، وزاد الطين بلة الغاء وزارة الاعلام التي كان وزرائها يتسابقون لصنع استراتيجية اعلامية فاعلة ، وسياسة اعلامية واضحة مبنية على التخطيط ، فاصبح اعلامنا بالغاء الوزارة وتعدد المرجعيات اعلام بلا مرجعية ، تائها يترنح في عالم الفضائيات ، تحكمه عقلية المدراء وبعض رؤساء مجلس الإدارة الذين يعرفون كل شيء ما عدا كنه الاعلام واسلوب ادارته .
وقد أثنى دولة الرئيس البخيت في زيارته لهذه المؤسسة على الدور التاريخي لإعلامنا ، الذي كان مدرسة عليا لرجال الحكم والعلم والقلم ، والذي خرج رؤساء الوزارات والوزراء ورجالات الدولة والسياسيين والمثقفين . وكانت الأغنية الأردنية معنى من معاني الهوية الوطنية الأردنية . مطالبا دولته أن تستعيد هذه المؤسسة دورها ورسالتها ومكانتها في ظل مجابهة الثقافات وتزاحم الفضائيات .
ونستطيع ان نجزم إن صناعة الإعلام مهنة أكثر منها وظيفة عابرة ، فصناعة الكلمة فن من فنون الفكر وشكل من أشكال الثقافة . والعمل الإعلامي اليوم أصبح أصعب بكثير في ظل فيض من المحطات التلفزيونية ، في هذا الفضاء الرحب وهذا التشابك الإعلامي، وهذا التفاوت في الاتجاهات والتلاقح الحضاري والتمازج الفكري والتنوع الاعلامي والمدارس الاعلامية المستحدثة .
والسؤال هو أين نحن في هذا البحر الذي لا ساحل له ؟؟ . فهل استعدت إذاعتنا وتلفزيوننا لمواجهة هذه الأمواج العاتية ؟؟ .
لقد أصيبت مؤسستنا الإذاعية والتلفزيونية بالجمود ، لا بل بالتراجع ، في ظل فقدان شخصيتنا الإعلامية الوطنية ، وعدم وجود إستراتيجية إعلامية بعيدة المدى . ترتكز على فكر مليكنا الشاب المتألق الذي سبق عصره في بعد النظر ، والذي أذهل العالم بقيادته الواعدة المتطلعة للغد المشرق ، وحيويته وحركته المستمرة ، التي أثمرت تقدما ورفعة لأردننا الحبيب ، إلى أن أصبح الأردن بفضل جلالته محج المستثمرين ، ومهوى أفئدة الزائرين ، والموطن الآمن والمستقر للباحثين عن الأمن والأمان ، في حمى أبي الحسين وعرين الهاشميين العظام .
* خبيرإعلامي أردني