من بين كل 12 شخصاً تقريباً في إيران يوجد شخص مدمن على المخدرات، وفقاً لما نشرته صحيفة «فاينانشال تايمز» البريطانية، في تقرير لها في أيار (مايو) 2015، إذ يبلغ عدد المدمنين ستة ملايين شخص. ومثل هذا الإحصاء يمكن له، مبدئياً، أن يقدِّم تصوراً عن أوضاع إيران في الوقت الحالي، فانتشار المخدرات في هذا الشكل الوبائي يشير إلى أن ثمة أزمة عميقة تضرب المجتمع كله، وتقود أفراده إلى البحث عن طريق للهرب من الواقع بفعل قسوته ومرارته، وفقدان الأمل في المستقبل، الذي يبدو محفوفاً بالمخاوف، ومن ثمَّ يكون تغييب العقل حلاً ملائماً للتكيف مع مشاعر الإحباط والعجز، وبخاصة لمن هم في مرحلة الشباب.
إدمان المخدرات هو مجرد علامة ذات دلالة على هشاشة الداخل الإيراني ومشكلاته المتفاقمة بفعل السياسات التي اتبعتها إيران منذ عقود. ويمكن مثلاً الإشارة إلى أن إيران واحدة من أكثر دول العالم فساداً، وفق مؤشر الفساد الذي أصدرته مؤسسة الشفافية العالمية في العام 2015، فقد جاءت في المرتبة 130 بين 168 دولة تضمنها التقرير. ويعتمد هذا التقرير على بيانات تجمعها المؤسسة من 12 هيئة دولية، منها المنتدى الاقتصادي العالمي والبنك الدولي.
وفي ما يخص حقوق الإنسان، ورد في تقرير منظمة العفو الدولية 2015-2016 عن إيران ما يلي: «ظل التعذيب وغيره من ضروب سوء المعاملة ضد المعتقلين أمراً معتاداً، مع إفلات مرتكبيه من العقاب! وكانت أحوال السجون قاسية. واستمرت المحاكمات غير العادلة في بعض القضايا، ما أدى إلى صدور أحكام بالإعدام. وواجهت النساء وأفراد الأقليات العرقية والدينية تفشي التمييز في القانون وفي الممارسة العملية. نفذت السلطات عقوبات قاسية، بما في ذلك سمل العيون وبتر الأطراف والجلد».
في شوارع طهران وحدها يعيش في «الكراتين» 15 ألف مشرد، يموت كثيرون منهم برداً وجوعاً. وأعلن وزير الداخلية الإيراني عبدالرضا فضلي، أمام البرلمان الإيراني في بداية شهر حزيران (يونيو) الماضي، أن عدد سكان العشوائيات في إيران يصل إلى 11 مليون شخص. ويبلغ عدد المصابين بالإيدز، الذين اعترفوا بإصابتهم بالمرض وسجلوا أنفسهم في مراكز العلاج، 28 ألف شخص، لكن أرقام الأمم المتحدة تقدرهم بـ73 ألفاً. أما وزارة الصحة الإيرانية نفسها فهي تؤكد أن العدد الحقيقي يصل إلى نحو تسعين ألف مصاب، بمعنى أن نحو ستين ألف مصاب يعيشون بين الناس وينقلون المرض إلى غيرهم، ما يعكس غياب الثقة في المنظومة الصحية، ومدى الخطر الذي يمثله هؤلاء المرضى على المجتمع كله.
هذه المشكلات تقدم صورة للمجتمع الإيراني من داخله، بعد عقود من حكم متخبط يفتقر إلى الرشد والحكمة، ويسيء استخدام الموارد الإيرانية الضخمة، التي يمكن أن تغير وجه الحياة في البلد المنكوب، وأن تقضي على الفقر والبطالة والبؤس والمرض والجهل وكل المظاهر السلبية، التي تتفشى في إيران في الوقت الحالي. والمشكلات الأخلاقية المستشرية في المجتمع تكشف بجلاء زيف الادعاءات التي تروجها الحكومة عن «نموذج إسلامي» سياسي واجتماعي تدعي إيران أنها تقدمه، فمعدلات الإدمان والدعارة وتفشي العنف وارتفاع معدلات القتل والجريمة عموماً تفضح مزاعم السلطات الإيرانية، وتسيء إلى الإسلام، الذي تدعي إيران الرسمية أنها تستند إلى تعاليمه وتستلهم قيمه.
هذه المشكلات المتراكمة أشبه ببراميل بارود قابل للانفجار. ويدرك المرشد الأعلى علي خامنئي أن بيته أوهى من بيت العنكبوت، لذا يحاول، ومعه القابضون على زمام الأمور في إيران، إخفاء حقيقة الهشاشة والضعف التي تنتشر على كل المستويات. ومن هنا كان الرعب الذي تملّك القادة الإيرانيين مع مؤتمر المعارضة الإيرانية في باريس في 9 حزيران (يونيو) الجاري، وما أبدوه من ردود فعل متشنجة.
الدول القوية لا يهزها مؤتمر للمعارضة يُعقد في قارة أخرى، ولا يكرس كل قادتها ورموزها أنفسهم لإصدار التصريحات الغاضبة أياماً متواصلة، لكن الأرض المتشققة تحت أقدامهم هي ما يقف وراء اللهجة التصعيدية التي فاقت كل الحدود. وما كانت كلمة الأمير تركي الفيصل في المؤتمر لتثير كل هذه العواصف لو لم يكن المسؤولون الإيرانيون يعرفون أكثر من غيرهم أنهم لن يصمدوا طويلاً أمام أية حركة منظمة تفضح ممارساتهم، وتدفع الداخل الإيراني الذي تغلي مراجله إلى الانتفاض ضد ما يتعرض له على يد النظام الحاكم، ويطالب بحقوقه في حياة كريمة تتلاءم مع ما تمتلكه إيران من ثروات تنتظر من يوظفها لمصلحة الشعب بدلاً من إهدارها على مذابح المطامع الإقليمية وأوهام الهيمنة والسيطرة وسراب الأيديولوجيا ومتاهات التخبط والفساد والفشل.
تدرك إيران ضعفها، ولذا فإنها تستبق هذا الضعف بإثارة المشكلات وافتعال الصدامات والصراعات والمعارك مع جوارها الإقليمي ومع القوى العالمية الكبرى، لشغل الرأي العام الإيراني عن تردي الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وتسويغ القمع ومصادرة الحريات وإسكات كل الأصوات المطالبة بحياة أفضل وإدارة أفضل للموارد والمقدرات، وتخفيف قبضة القمع المتستر بالدين بدعوة الاستهداف الذي تتعرض له إيران والمؤامرات التي تُحاك لإسقاطها، والأخطار التي تحدق بها من كل صوب. ولا تخرج إيران من معركة إلا لتدخل معركة أخرى، ولا تكاد تتجاوز أزمة مع جيرانها أو مع دول أو منظمات عالمية إلا لتبدأ فصول أزمة أخرى، لتُبعد الرأي العام عن قضايا الداخل ومشكلاته.
تكرس إيران كل جهودها من أجل الهيمنة على المنطقة، وهي تستخدم العامل المذهبي والنزعة القومية في سعيها، الذي لم تتوقف عنه يوماً على رغم أن محاولاتها باءت بالخيبة والفشل. ولم تنجح إيران إلا في شيء واحد هو تمزيق كل دولة نجحت في مد أذرعها فيها. ولكن هدف إيران الحقيقي هو دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، ولذا فإنها تشعر بأنها لم تحقق أي شيء حتى الآن. واستعراضات القوة الزائفة التي تمارسها إيران بين الحين والآخر هي محاولة بائسة لإقناع الولايات المتحدة والغرب بأنها القوة المسيطرة في المنطقة، وأنها قادرة على إنفاذ إرادتها، ولكن الوقائع كانت تثبت دائماً أنها تخرج من مواجهاتها مع دول مجلس التعاون خاسرة، سواء على مستوى المواجهة السياسية أم على مستوى المواجهة العسكرية على النحو الذي حدث في اليمن.
لقد ملأت إيران الدنيا صراخاً، واتهمت دول الخليج العربية بأنها تتدخل في شؤونها، وكأن كل ما ارتكبته من جرائم في حق دول الخليج جميعها ليس تدخلاً في شؤونها، وكأن زرع الخلايا الإرهابية وتمويل الإرهابيين وتوفير ملاذات آمنة وإثارة الفتن المذهبية وتشجيع جماعات التخريب في دول الخليج العربية وتهريب السلاح لهم ليس تدخلاً في شؤونها.
إن على المجتمع الدولي أن يواصل دعمه المعارضة الإيرانية، التي تعبر عن صوت الإيرانيين المكبوت في الداخل وتنقل تطلعاتهم ورؤاهم إلى العالم، حتى إسقاط نظام الملالي، الذي أشعل المنطقة بالفوضى والفتن. ويجب ألا نترك للنظام الإيراني فرصة للمناورة، لأنه لا يرى في أية بادرة سلمية من جانب دول الخليج العربية إلا علامة على الضعف. ولقد آن الأوان ليدرك النظام الإيراني المتهاوي وزنه الحقيقي.
"الحياة"