الإدارة الحكومية والعلاقات العامة .. نظرة مختلفة!
جهاد صعيليك – دبي
24-08-2008 03:00 AM
لا يمر يوم، هذه الأيام، إلا ويصدر عن دائرة حكومية أو أخرى بيان صحفي يغطي خبرا من أخبارها، ترسله على الأغلب شركة متخصصة في العلاقات العامة لمختلف المطبوعات ووسائل الإعلام في البلد، وأحيانا في المنطقة ككل. علاقة الإدارات الحكومية بالإعلام ليست جديدة، لكن الجديد يتمثل في اعتماد شركات العلاقات العامة للقيام بهذه المهمات، وما يثير اهتمامنا هنا تساؤل مهني وموضوعي بسيط: هل العلاقة بين الإدارات الحكومية وشركات العلاقات العامة تتم في منحاها المهني السليم بحيث تستحق المبالغ المستثمرة فيها؟ وما هي الصورة السليمة للعلاقات العامة الحكومية..
قلنا: العلاقات العامة الحكومية، والمصطلح تحوير بسيط لمصطلحين متداولين مهنيا ويعنيان الإطار نفسه: العلاقات الحكومية Government Relations والشؤون العامة Public Affairs، وهما في العادة يستخدمان للإشارة لجهود الإدارات الحكومية لبناء علاقات مع قطاعات الجمهور المختلفة، لكنهما للأسف ينحصران في منطقتنا العربية في الأخبار الصحفية، وهو خطأ مركب تتحمل مسؤوليته أكثر من جهة، على ما سنوضح.
وكالة الأنباء موجودة؟
الصورة القديمة لعلاقة الإدارات الحكومية بالاعلام تختزلها وكالة الأنباء الحكومية التي تبث الخبر المطلوب للصحف، فتنشره! ويتفضل التلفزيون الحكومي بإرسال مصور ومراسل يقرأ في غالب الأحيان خبر وكالة الأنباء. وبالطبع فهذه الصورة لا تزال قائمة، ليس فقط لدى مديري بعض الإدارات الحكومية (في كثير من البلدان)، بل وحتى لدى ما يعرف بأقسام العلاقات العامة في عدد غير قليل من الإدارات الحكومية، والسبب بسيط، فهذا النموذج مريح جدا لهذه الأقسام!
لكن ترى هل الأخبار، بمفهومها الوجيز المتمثل غالبا في أنشطة المدير أو المسؤول المعني، هي كل ما تعنيه علاقة الإدارة الحكومية بجمهورها؟ ماذا عن إيضاح التعليمات الجديدة والقوانين والمتطلبات الرسمية، مثلا؟ هنا يحضر نموذج قديم آخر، ألا وهو الفرمان الإداري الذي يعلّق على لوحة حائطية في مدخل المؤسسة وعلى المعنيين قراءته، والمبدأ القانوني يريح الإدارة لأنه لا يجوز التذرع بعدم الاطلاع على القانون!
دعونا نكتشف شيئا معا: لقد تغيرت الدنيا! فالجمهور أصبح أكثر تطلبا ووعيا، والحكومات أصبحت أكثر مؤسسية في جوانب عديدة، لذلك لا بد من استحضار أدوات عمل جديدة تناسب هذين الطرفين "الجديدين"! والأهم أن العلاقة بين الحكومات بوزاراتها وإداراتها من جهة والجمهور (سواء أكان مواطنا أو وافدا) من جهة أخرى لم تعد أحادية الاتجاه، بل أصبحت أكثر تفاعلية وفي الاتجاهين!
هنا يكمن التحدي الأساسي الذي يتطلب تغيير لغة وأسلوب الإدارات الحكومية بشكل عام في مخاطبة الجمهور، وأول ما يحتاج التغيير هو العلاقات الإعلامية، التي تمثل حاليا الشق الأكبر من أعمال شركات العلاقات العامة التي تعمل مع الإدارات الحكومية.
عن العلاقات الإعلامية
أول الأخطاء التي ترتكب هنا يرجع لطبيعة عمل شركات العلاقات العامة في منطقتنا، والذي يركز بشكل أساسي على الأخبار الصحفية. هنا تقع الإدارات الحكومية في الخطأ نفسه الذي تقع فيه كثير من شركات الأعمال؛ حيث يتم التركيز في الأخبار الصحفية، وحتى في الخطط الإستراتيجية والمرحلية على احتياجات الصحفي ووسائل الإعلام. حسنا، قد يكون هذا مفيدا إذا كان الموضوع خاصا بقانون لوسائل الإعلام مثلا! أما في غير ذلك، فمن البدهي أن نتذكر أن المستهدف هو الجمهور وليس الإعلام!
لكن الإعلام ليس سيئا! من قال ذلك؟ إنما السيئ، وهذا خطأ ثان، اختزال المؤسسة أو الفكرة أو الرسالة في الأنشطة المرتبطة بالمدير دون مضمونها. بعض الموضوعات ذات الأهمية الكبيرة والتي يمكن أن تبرز نشاطا جما للمدير ولدائرته، يتم أحيانا اختزالها في مجرد كون المدير استقبل ضيفا! بعض شركات العلاقات العامة تذاكت وقامت بتغيير غريب، حيث يتم تحويل الخبر إلى قصة تناسب محرري الصفحات المتخصصة (مثل الاقتصاد) من خلال إضافة دراسات وأرقام، وتعويم الموضوع، ليفاجأ الجميع حين يدقق أحدهم الأرقام أنها غير ذات صلة!
هنا، وهنا تحديدا، ألقي باللوم على الموظف المعني في الإدارة الحكومية ذات الصلة، لأنه من المفترض أنه يعرف جمهوره، ويعرف رسالة إدارته، ويعرف ما هي الفكرة التي تقوم عليها علاقة إدارته بجمهورها. وإذا كان واحد من هؤلاء الموظفين يقرأ هذه المقالة فسوف أقترح عليه أن يتواصل قليلا مع مراجعي الإدارة التي يعمل فيها وليحاول بين الفينة والأخرى معرفة ما الذي لا يعرفونه عن إدارته، أو ما هي الأخطاء التي يقعون فيها بسبب عدم فهمهم قرارا أو تعليمات صدرت حديثا. ثم ليستمع إلى حواراتهم مع الموظفين المختصين الذي يستقبلون المعاملات. هكذا مبادرة تفيد الموظف المعني في فهم الخلل الاتصالي، وتعطيه الصورة الكلية لما يجب أن يكون عليه برنامج العلاقات العامة الحكومية الخاص بإدارته.
ما بعد الخبر الصحفي
نعود إلى الفكرة الأساسية، وهي أن العلاقات العامة هي في الأصل بناء علاقات مع قطاعات الجمهور المستهدف، وليس الاكتفاء بنشر أخبار صحفية. لذلك، من المهم لأقسام العلاقات العامة في الإدارات الحكومية (ولنسمها أقسام الاتصال) أن تنظر للصورة بشكل شامل. إذ سيكون من واجبات هذه الأقسام إدارة لقاءات متخصصة تشرح للتجار (مثلا) تعليمات جديدة تصدرها دائرة جمارك، أو تشرح للصاغة تفاصيل المواصفات الجديدة لمعايير تقييم جودة المجوهرات، وغير ذلك مما تجد مثله في كل إدارة حكومية، لكنه لا يجوز أن يتم بمنطق الفرمان. وغير اللقاءات هنالك الكثير الكثير من أشكال التواصل التي يمكن البناء عليها لتعزيز هذه العلاقات.
سيكون أيضا من مسؤولية أقسام الاتصال هذه بناء علاقات مع شركاء الإدارة المعنية في محيطها، من إدارات حكومية أخرى أو مؤسسات مدنية عامة أو هيئات قطاع خاص، وقبل ذلك بناء صورة مؤسسية سليمة للإدارة بحيث يتشارك جميع موظفيها في رسالة واضحة وواحدة، ويكونون هم قبل غيرهم مدركين للواجبات العامة لإدارتهم. سيكون معيبا في إدارة حكومية أن يكون الموظف المعني بالشؤون الإدارية مثلا لا يعلم أن زميله في قسم إصدار التراخيص(مثلا) أصبح مخولا التوقيع النهائي على طلبات الترخيص قبل عرضها على المدير، أو أن زميلته في قسم آخر فقدت قريبا. والحل بسيط، بساطة نشرة إخبارية أسبوعية تذكر موظفي الإدارة أنهم أسرة واحدة!
للأسف، فإن هذا الشق المهم من العلاقات العامة لا يزال خارج إطار عمل وتفكير أكثرية شركات العلاقات العامة العاملة في منطقتنا! الخبر عندهم هو المهم! والأهم أنك إدارة حكومية لا تدفع من جيبك!!!!!
والرسالة...؟
نعود قليلا للإعلام، وندمجه مع نقاشنا هذا، لنذكّر أنه بغض النظر ماذا ستفعل، فإن الأهم هو المضمون، وما هي الرسالة المطلوب توصيلها للجمهور. سأهمس هنا في أذن المدير المعني، وأقول له: أحضر منشارا وابدأ بتحطيم ذلك الصندوق إلى الأبد، فالمطلوب هنا التفكير ليس خارج الصندوق، وإنما نسيان أن هنالك صندوق من أساسه!
أضرب مثلين: أيهما تفضل يا عمي المدير أن يقول الخبر إنك أصدرت قرارا بزيادة الرسوم على معاملة رسمية ما، في إدارتك، أم أن يقال أنك قمت بمراجعة لطبيعة الخدمات التي تقدمها إدارتك لهذه المعاملة وطلبت من موظفيك تحسين مستوى الخدمات وتسهيلها، وأنه في سبيل تحقيق هذا التحسين ستطرأ زيادة على الرسوم؟ ها أنت إذن مدير يؤمن بالتطوير المستمر وتحسين الخدمات ويشعر بمشاكل المراجعين فيسعى لحلهاّ! انبسطت؟ انتظر لحظة!
المثل الثاني: أيهما تفضل أن يقال إنك استقبلت وفدا من موزمبيق واصطحبته في جولة على مبنى الإدارة، أم أن يكون الخبر أنك وضعت هذا الوفد الموزمبيقي في جلسة حوار مع عدد من موظفيك يعرضون تجربتهم اليومية ويستمعون للتحديات التي يواجهها نظراؤهم الموزمبيقيون ثم يفكرون في حلول لها، تقدمها أنت بعد ذلك هدية باسم إدارتك للوفد الضيف. نتحدث عن صورتك كمدير؟ عُد على يديك: مدير متحضر، يؤمن بالعمل الجماعي وإشراك الموظفين، عملي، قادر على تحويل المشاكل إلى تحديات، وتحفيز موظفيه على التفكير المبدع والخلاق، وفوق ذلك يعكس صورة طيبة عن بلده! الآن، انبسط!
والميديا الاجتماعية؟
تعتمد الميديا الاجتماعية Social media على استخدام وسائل التقنية الحديثة ومواقع التواصل الاجتماعي (مثل فايس بوك!) كقنوات لبناء العلاقات مع الجمهور. وأسجل هنا أن الإدارات الحكومية في الإمارات وبعض الدول العربية كالأردن سبقت الشركات المحلية في استخدام هذه القنوات. لن أستفيض كثيرا، لكنني سأشير إلى ملحوظتين:
الأولى أن تتذكر يا سيدي المدير أن الميديا الاجتماعية تصنف باعتبارها قنوات تفاعلية للعلاقات المباشرة مع أفراد الجمهور، وبالتالي فأنت تبني علاقة مباشرة مع هذا الفرد وتستطيع أن تسمع منه تماما مثلما يسمع منك. هل تريد فرصة أفضل من هذه لتطوير أداء مؤسستك؟
والملحوظة الثانية، تتعلق بمواقع الويب الخاصة بالإدارات الحكومية، حيث يتم عادة الوقوع في خطأ متراكم، إذ تترك مهمة تصميمها وتطويرها وتحديثها لقسم تقنية المعلومات! لا، أيها السادة! فالسلوك الصحيح أن يتشارك في تصميم وتصور الموقع فريق من الإدارة، وأقسام التشغيل والاتصال، بحيث توضع خطة محتوى متكاملة ينفذها لكم قسم تقنية المعلومات!
وكلمة السر؟
هذه أمرها بسيط.. تذكروا أن الوظيفة العامة واجب، وما لا يتم الواجب إلا به، فهو واجب! ترى ألا ترون أن بناء العلاقات الصحيحة والسليمة والمثمرة مع جمهوركم... أصبح واجبا الآن؟
جهاد صعيليك: الرئيس التنفيذي للتسويق والاتصالات، انفنتف ماركتنج سوليوشنز
ـ عن صحيفة المال الظبيانية