أعود للكتابة مرة ثانية عن رجل الأعمال الأردني زياد المناصير, لأشير إلى ما هو أهم من نية الرجل زيادة حجم مشاركته في توفير فرص العمل للشباب الأردني بثلاثة الآف فرصة عمل جديدة, سيوفرها فوق الآف فرص العمل التي سبق وأن وفرها لهم, فما هو أهم من هذا الإنجاز المادي الملموس هو الرؤية التي تقف وراءه وتحركه, وهي رؤيا عبر عنها صاحبها في الرسالة التي نشرها تحت عنوان «حين نقابل المستقبل بالرضى» وهو عنوان يُحيي ثقافة طالما تمتع بها الأردنيون, قبل أن تظلهم سنوات التوتر والقلق, الناجمين عن نزعة استهلاكية سيطرت عليهم, وجعلت متطلباتهم أكبر بكثير من إمكانياتهم, واستبدلت رضاهم وقناعتهم بقلق وجشع لا يشبع, وهذا خلل طالما دعونا إلى إصلاحه من خلال العودة إلى ثقافة الرضى والقناعة, وهي غير ثقافة القنوط والاستسلام للعجز والكسل, بل الرضى بالرزق والسعي لتعظيمه بالعمل الجاد, والأخذ بالأسباب مصداقاً لقول رسول الله عليه السلام «اعقل وتوكل».
وحتى يؤتى العمل الجاد أكله فلابد من أن يتسلح المرء بالإضافة إلى الصبر بالإرادة والحلم, وهو بالضبط ما فعله زياد المناصير الذي خرج كمعظم الأردنيين من رحم المعاناة وشظف العيش, فجلهم أبناء عسكر وفرسان و زراع وحصادين ورعاة, ارتبطوا بالأرض ولم يفرطوا بها إلا للضرورة القصوى, التي هي في الحالة الأردنية الإنفاق على تعليم الأبناء, حيث ضحى معظم الأردنيين بثمن أرضهم في سبيل تعليم أبنائهم, وهي حقيقة لم ينسها زياد المناصير, بعد أن من الله عليه خيراً عميماً, فلم يتصرف كمحدثي النعمة الذين يتنكرون لأصولهم ولأوطانهم, ويلوون ألسنتهم ويرقعونها بكلمات عجماء, ويتظاهرون بأنهم ولدوا وفي أفواهم ملاعق من ذهب, على العكس من ذلك, فقد ظل المناصير يفخر بأصله ومعدنه الأردني الذي علمه الصبر والإثيار,وبالأيام العصيبة التي مرت به, والتي ذاق فيها كل أصناف التعب والحرمان, مثلما ظل وفيا للأردن وطنه, فتصرف على عكس الكثيرين من أصحاب رؤوس الأموال, ففي الوقت الذي كانوا فيه يضخون أموالهم إلى خارج الأردن كان هو يضخ أمواله في شرايين الاقتصاد الأردني, وفي الوقت الذي كانوا فيه يكتفون بالفوائد البنكية, كان هو يشيد المشاريع التي توفر فرص العمل لالاف الشباب الأردني, ويدعوهم جميعا إلى «نبذ كل العادات المبنية على الخجل والترفع عند الإقدام على العمل, أو ما نسميه مجازاً بثقافة العيب» كما قال في رسالته التي أشرنا إليها.
في سلوكه هذا مارس المناصير قناعته «بأن لرأس المال هوية ووطن». وفي دعوته لنبذ العادات السلبية في مجتمعنا وثقافتنا وممارساتنا ضرب المثل بنفسه, وقدم عصارة تجربته, في ممارسة طالما دعونا الرواد الأردنيين في مختلف المجالات إليها من خلال كتابة تجاربهم لتستفيد منها الاجيال, باعتبارها جزءا من التجربة والذاكرة الوطنية, وهو ما لخصه المناصير عندما كتب « أنا لا أمارس تنظيراً مجرداً بقدر ما أعطي تجربة عمر وخبرة حياة لأبناء وطني الذي أحببت كل ما فيه وندرت نفسي وجهدي وخبرتي لخدمته».
في حديثه في رسالته عن مقابلة المستقبل بالرضى قدم زياد المناصير تشخيصاً لحالة المجتمع الأردني, مذكراً الأجيال الجديدة من الأردنيين بالكثير من صفات الأردنيين وخصائصهم, وأولها الإيثار على النفس الذي دفع الأردنيين «لحماية الضيف وتقاسم الخبز مع المكلوم والغريب وابن السبيل» وذلك قبل أن تتسلل إلينا الأنانية التي نمتها ثقافة الاستهلاك والجشع, وهنا تبرز أهمية التنشئة الاجتماعية وهو ما أشار إليه المناصير عندما كتب « إنني مؤمن بالنشأة والتربية كسلاح مهم في دفع الشباب إلى الإقدام على سوق العمل ذلك أن قدسية العمل بحد ذاته تنقي عنه الرتبة والحجم فهو مقدس سواء كنت مديراً أو عامل وطن ولكل واحد منا دور مهم في ترسيخ هذه المعادلة» وهو بهذا يذكرنا بحقيقة كبرى من حقائق تاريخنا الحضاري, ذلك أن معظم صناع نهوضنا الحضاري كانوا من الحرفيين فمنهم من كان يعمل في غزل النسيج, ومنهم من كان بناء, ومنهم من كان يعمل بالزجاج, ومالنا نذهب بعيداً في التاريخ وننسى أننا في الأردن, ولسنين قليلة مضت كان منا عامل الوطن والسباك والحراث والدهان و...و....ولم يكن يعيب العشيرة إن كان شيخها حراثاً, أو أن من أبنائها سباكاً أو دهاناً, فالمهم أنه يكسب رزقه بجهده وكده, وقبل ذلك بأخلاقه وحرفيته وأنه يعطي ليأخذ, قبل أن تظلنا سنوات صار فيها العمل اليدوي عيباً و»التسول» شطارة, مما يدفعنا إلى ضم صوتنا إلى صوت المناصير في الدعوة إلى التخلص من روح الوظيفة التي سكنتنا وحولتنا إلى جموع من العاطلين عن الإنتاج, ولا أريد أن أقول «المعالين», وهي دعوة تحتاج منا إلى خطاب اجتماعي جديد يعيد تصحيح المفاهيم الخاطئة, التي استوطنت الشباب الأردني, ويعيدهم إلى ثقافة الرضى والإيثار والصبر والإرادة, وأسلحة تحويل الأحلام الصغيرة إلى مشاريع كبيرة, ولهم في تجربة زياد المناصير درس وعبرة. الرأي
Bilal.tall@yahoo.com