من قرية صويلح الى 39000 الف قدم (جزء 4)
كابتن اسامة شقمان
16-07-2016 10:09 PM
في العام 1952، تزوج من والدتي- أطال الله في عمرها - وكان اول لقاء جمعه بها فى بيت خاله وقامت بترتيب هذا اللقاء عمتي وعدد من البنات فى مدينه الزرقاء، وكانت تلك هي المرة الأولى والوحيدة التي التقى بها حتى ليله الزفاف، وبعد حوالي أربعة أشهر تم عقد القران فى قرية صويلح، وبعد سنه من الزواج رزقه الله بأخي البكر بسام.
تسلم والدي رحمه الله العديد من المواقع فقد كان مديراً لشرطه العقبة، ومديراً لشرطه محافظه اربد، مديراً لشرطه محافظه الكرك، مديراً لكلية الشرطة الملكية، مديراً لأداره ترخيص السواقين والمركبات في المملكة، مديراً لأداره التدريب والتخطيط والتطوير فى الأمن العام، مديراً عاما للشرطة المعاونة ومساعداً لمدير الأمن العام، مديراً لأداره المتابعة والتفتيش في وزاره الداخلية، ومحافظاً لأربد، ومحافظاً لعاصمة.
كان والدي شديد التعلق بأفراد عائلته عاش حياه مديدة تجاوزت التسعين عاما وبقى محافظا على قواه وذاكرته حتى أخر لحظه من حياته ولم يتوقف حتى آخر سنه تقريبا من وفاته يوماً عن العمل اليومي فى الحديقة وخاصة يوم الثلاثاء وهو اليوم الذي يتم فيه ضخ الماء الى منطقتنا كان رحمه الله يمضي الكثير من الوقت جالسا على الأرض ينسق الحديقة بيديه حيث كان بين فتره وأخرى يقوم بإعادة تنسيق وترتيب كامل للحديقة، كنا جميعاً نستغرب كيف باستطاعته نقل قوارير الزريعة الضخمة من مكان الى آخر، وحتى اليوم الأخير في حياته كانت الدماثة والعفة والصدق والترفع عن الصغائر والود الصادق صفات ملازمه له، ولم يطلب او يشتري لنفسه شيئاً كان شغله الشاغل، هو بيته، والعائلة الصغيرة، والدتي، واولأده، والعائلة الكبيرة" أخوانه وعائلاتهم، وخاصة أخته الوحيدة "عزيزة " وصالح "امد الله بعمرهما" وهادي "رحمه الله" حيث كان يعتبرهم كأبنائه تماماً.
في السنوات الأخيرة من حياته كنت اغتنم كل فرصه خلال تواجدي فى عمان للجلوس والتحدث معه فى أمور الدين والدنيا وفي المواضيع السياسيه والعلمية والثقافية، وكنا نتشارك فى أمور كثيرة ونختلف فى القليل منها، وكنت استمتع بالحديث معه رحمه الله، فكانت الساعات تمضي فى الحديث عن أمور كثيرة، وكنت ازداد تعلقاً به فى كل مره وأتوق للعودة الى عمان لسماع أحاديثه الممتعة لما تحمله من فكر متجدد وصواب فى الرأي والرؤيا لكل مستجدات الحياة.
عشرة عقود إلا قليل عاشها والدي بلا كلل ولا ملل كان واحدا من ذلك الجيل المخضرم المختزن في وعيه ووجدانه وذاكرته تاريخا كاملا من المعرفة والأحداث والوقائع، جلست مراراً وتكراراً الى جانبه استمعت وأصغيت فعبرت الفكرة والعبرة وسداد الرأي وصواب الحكمة، لم تهنه ذاكرته وظلت خضراء نضره تجني ثمارها لمن أحب ويتوق الى الحديث عن كافه مستجدات العصر الحالي والماضي، ان الموت حق لكن فراق الأحبة صعب ومرير كلما غاب احدهم جسداً انفتح باب الذاكرة على مصراعيه واستعاد المرء وجه من رحلوا من أهل كانوا يملئون على من حولهم الحب والحكمة والمعرفة.
كان أبي يمثل في نظري نموذجا لصنف من الرجال لم يبقى منهم الكثير، انه ابن جيل رحل أفراده تباعاً وقد انكسرت أحلامهم ولكن إرادتهم لم تنكسر ابداً، فبقوا أهل مبدأ وموقف وظل سلم قيمهم واقفا لم ينقلب رأساً على عقب، لا نذكرهم إلا صاحب واجب في الأحزان والمسرات، لقد امضوا سحابه عمرهم أبي وجهاء بلا عدة الوجاهة إلا كرماً، وعزة النفس.
دفعني الحزن والألم لأسطر حروفاً من الوفاء للإنسان الذي رباني وعلمني المحبة، الى من عطرني بسيرته الطيبة، وأعماله المخلصة وأقواله السديدة وحكمته البليغة، أنها كلمه وفاء الى روح والدي، كلمه تتجدد كلما طال الفراق وبعدت المسافة، كلمة حب ووفاء الى من أعطاني وعلمني بلا حدود وحدثني بلغه الدين والتسامح والأخلاق والانتماء الى وطننا الحبيب الأردن، فلك الفضل كل الفضل علي بعد الله تعالى والوفاء لك حتى آخر نبضة لي في الحياة، رحمك الله يا والدي الحبيب رحمه واسعة.
..... يتبع