جولة الملك عبد الله الثاني في موسكو وباريس التي تتم على ايقاع المجابهة الروسية-الامريكية ودوي الانفجارات في جورجيا تحمل دلالات مهمة تتجاوز سياقها وتوقيتها.
فعمان قرّرت الابقاء على موعد زيارة ملكية كانت مقررة مسبقا لعاصمتين تقفان على طرفي نقيض بعد احداث جورجيا, مع ان زيارة موسكو قد تثير حساسية الرئيسين الامريكي جورج بوش, والفرنسي نيكولا ساركوزي- حليف بوش الاساسي في اوروبا الجديدة, والذي تتمتع بلاده بعلاقات اقتصادية-استثمارية وسياسية قوية مع الاردن.
ظهر اليوم يلتقي الملك عبدالله الثاني الرئيس الروسي الجديد ديمترى ميدفيديف الذي يصر على فتل عضلات بلاده العسكرية من اجل الدفاع عن مصالحها الاستراتيجية وتوطيد نفوذها مجددا في مناطق الجوار التي فقدتها مع انهيار الاتحاد السوفييتي قبل عقدين. ويوم الاربعاء يحط الرحال الملكية في باريس.
ثمّة رسائل سياسية تبعثها عمان في اتجاهات مختلفة.
كل دولة, مهما كبر او صغر حجمها, تحتاج الى الاستمرار في رقصة توازنات للانسجام مع موازين القوى في الاقليم وسائر العالم, وذلك لحماية امنها الاقليمي عبر الانضمام الى او العمل مع تكتلات اقليمية توفر شبكات امان سياسية وعسكرية واقتصادية في ضوء انهيار منظومة الامم المتحدة.
يتطلب ذلك السير على حبل سياسي مشدود يغلفه الغموض احيانا, بما يخلق سوء فهم وتكهنات باستمرار.
فعمان, التي تتمتع بعلاقة تعاون عسكري وسياسي قوية مع موسكو, تتحاشى اتخاذ موقف صريح لمصلحة روسيا التي انتهكت حرمة دولة مستقلة واخلّت بمبادىء العدالة الدولية التي تتمسك بها المملكة منذ خسارتها للضفة الغربية عام 1967 في الوقت ذاته, لا تستطيع هذه العاصمة الشرق اوسطية التخلي عن مصالح الولايات المتحدة ودول حلف شمال الاطلسي (ناتو) الداعمة للرئيس الجورجي ميخائيل ساكاشفيلي. هنا يتجلى مفهوم "الحياد الخلاق".
في الذاكرة السياسية سلسلة تحركات دبلوماسية انتهجتها المملكة اخيرا, ما يدل على رغبتها باحداث توازن في علاقاتها الخارجية, بعد سلسلة من الاخفاقات, تماشيا مع سرعة تحول المتغيرات السياسية بين دول وقوى محلية فاعلة في الاقليم, وذلك على امل تعزيز مواقفها التفاوضية خلال ما تبقى من ولاية الرئيس الامريكي جورج بوش والتحضير للتعامل مع خلفه على ارضية معطيات جديدة.
هذا الحراك يحاكي التغيير السريع لاصطفافات ما كان يسمى بمحوري "السلام" الموالي لاميركا و"الممانعة", اي الرافض للسياسات الامريكية في المنطقة. الاول يضم ما تعرف بعواصم الاعتدال العربي - الرياض, القاهرة, عمان وابو ظبي- بينما يضم الثاني ايران وسورية وحلفاءهما في الاقليم لا سيما حركة حماس الفلسطينية وحزب الله اللبناني.
هدف التحرك الاردني اولا واخيرا هو حماية مصالحه العليا في ملفات المنطقة السياسية بدءا بفلسطين ولبنان وانتهاء بالعراق, فضلا عن رغبة المملكة في تقليص نفوذ ايران في هذه الملفات تجاوبا مع مواقف قوى واطراف داخل هذه الدول تعمل للهدف نفسه, بحسب ما يرشح عن اوساط صنع القرار.
لكن ذلك لا يعني الانقلاب على ثوابت استراتيجية قائمة على دعم عملية السلام وصولا الى دولة فلسطينية مستقلة, مع ادامة التحالف الاستراتيجي مع واشنطن وصيانة معاهدة السلام مع اسرائيل.
لكن لا مانع من تغيير التكتيك "لحماية مصالحنا, خاصة اذا شعرنا ان هناك تغييرا في سلوك الاخرين. وهذا ما نلمسه على جبهات ثلاث تحاول الابتعاد عن تاثيرات التحالف مع ايران التي يهمها استعمال هذه الاوراق الاقليمية لتعزيز موقفها التفاوضي والاعتراف بها كقوى اقليمية ولو على حساب القضايا العربية", حسبما اسرّ احد المسؤولين.
التقارب مع حماس لا يعني انقلابا على تحالف الاردن الوثيق مع الرئيس محمود عباس. كما انه لن يفتح قناة سياسية مع حزب الله بدلا من التعامل مع الشرعية اللبنانية التي يقف بجانبها دوما. ولن يقف الاردن كذلك مع سنّة العراق لانه ضد حكومة نوري المالكي ومن ورائها ايران, لكن لانه يريد البقاء قدر المستطاع على مسافة واحدة من مختلف مكونات الشعب العراقي.
بدا التغيير الدبلوماسي اكثر وضوحا يوم 21/7/2008 حين اعاد الاردن النبض الى الحوار الأمني مع حركة حماس الفلسطينية بعد شبه انقطاع دام تسع سنوات. مذ ذاك, تستمر اللقاءات بصورة سرية.
ثم قام الملك عبد الله الثاني وكبار رجال الدولة بزيارة خاطفة الى المنطقة الخضراء داخل بغداد ظهر 15 اب, ليصبح بذلك اول زعيم عربي يزور العراق منذ سقوط نظام صدام حسين عام 2003 .
بعدها بستة ايام وصل وزير الخارجية صلاح الدين البشير الى لبنان والتقى اقطاب السياسة; الرئيس ميشال سليمان ورئيس المجلس النيابي نبيه بري ورئيس الوزراء فؤاد السنيورة ووزير الخارجية فوزي صلوخ. وسلّم البشير سليمان رسالة خطية من الملك عبد الله الثاني تتضمن دعوة رسمية الى الاردن.
توقيت استغلال نوافذ الفرص مهم للجميع.
زيارة الملك الى العراق جاءت بعد شهور من الضغوط الامريكية على دول عربية سنية لمنح حكومة العراق المنتخبة برئاسة الشيعي نوري المالكي شرعية سياسية. وبادر الاردن لكسر حاجز عزلة جاره القوي. اعقب ذلك زيارة السنيورة, احد زعماء التيار السني اللبناني. وقبلها باسابيع زار العراق وزراء من الكويت والبحرين والامارات العربية المتحدة, بعد ان قررت هذه الدول, كما الاردن, اعادة فتح سفاراتها هناك عقب جولة للمالكي.
هدف هذه البلاد المحدودة جغرافيا وديمغرافيا هو تشجيع دول ثقل اقليمي كالسعودية ومصر على تقديم اسناد مماثل لبغداد, التي تتارجح منذ خمس سنوات بين سطوة واشنطن وتغلغل طهران.
الاردن, كغيره, قرر التركيز على الايجابيات الاخذة في التبلور على الساحة العراقية والعمل على ترسيخ الانطباع عن بدء عودة الأمن والاستقرار لبلاد ما بين الرافدين, حيث يحاول المالكي استعادة توازن بلاده السياسي والأمني والتواصل مع محيطه العربي المنهار, للتوازن مع نفوذ امريكا وايران.
لكن ذلك لا يعني تغييرا جذريا في تحفظات الاردن وغيره من الدول العربية السنية على سياسة المالكي, المتهمة بالطائفية, بسبب تركيبتها المليشياوية بما فيها احزاب وقوى موالية لايران فضلا عن فشلها في تحقيق مصالحة داخلية حقيقية تدعم الشق الأمني.
على اية حال, باتت الدول العربية اكثر اطمئنانا اخيرا لرغبة المالكي المعلنة في العمل من اجل عراق موحد "اخذين بالاعتبار ان عليه ان يتعامل مع توازنات سياسية داخلية دقيقة ومع نفوذ ايران وامريكا", بحسب مسؤول اردني اخر مطلع على الملف العراقي.
ويتابع المسؤول ان المالكي اظهر بوضوح "انه يرغب في الانفتاح على العرب. اذ زار عمان وعواصم خليجية اخيرا. كما يبدو انه يسعى للحد من نفوذ ايران الذي يهدد امن العراق وسائر الأمن القومي. وهو يؤكد لمحدثيه ان الترتيبات الأمنية المزمعة مع واشنطن لن تكون مجحفه بحق سيادة العراق بل مقبوله للعراقيين ولدول الجوار. ويخطط المالكي ايضا للبدء باجلاء القوات الامريكية العراق نهاية عام 2010".
بالطبع لقيت اتصالات عمان حماس والمالكي ردود فعل متباينة في المنطقة.
سورية ومصر منزعجتان من تقارب حماس مع الاردن لانه يخفف من ضغط من يريد توظيف الحركة في صراعاته الاقليمية والدولية. واشنطن وتل ابيب والرئيس الفلسطيني محمود عباس ايضا لهم تحفظات. كما لم تبد الرياض والقاهرة الاعجاب بزيارة الملك بغداد.
لكن الاردن يجد نفسه بحاجة الى مراجعة مواقفه السياسية الخارجية باستمرار ضمن حدود الممكن للتعامل مع مشهد اقليمي متذبذب تتغير فيه تخندقات اعداء الامس بسرعة جنونية.
ويبقى الامل في ان تساند السعودية, ومصر, جهود الاردن وغيره من الدول الصغيرة, لتعزيز امن واستقرار الاقليم وحماية المصالح العربية المهددة بتقاسم النفوذ الجاري بين ايران وامريكا. مطلوب من السعودية ان تجد طريقة لتنحية الخلافات السياسية التي تعمقت بسبب شخصنتها, للتواصل مع الرئيس السوري بشار الاسد ولدعم حكومة السنيورة, واعادة اهتمام امريكا بعملية السلام بعد انتخاب رئيس جديد نهاية العام.
فالحديث عن وحدة عربية حالمة كما كانت عليه الحالة في منتصف القرن الماضي, لم يعد مجديا او قابلا للتطبيق. لكن من الممكن حماية الحد الادنى من المصالح الوطنية العليا عبر توسيع الجبهة العربية وباسناد دول ثقل اساسي.
العرب اليوم.