اللغات أنظمة من الرموز والأصوات ينتجها البشر لتعبر عن الأشياء والمعاني والخبرات، وتشكل وعاء للتجربة الإنسانية المشتركة لجموع الناطقين بها. وتتفاعل اللغات كما تتفاعل الشعوب والأمم، وتترك كل لغة أثرها على الأخرى. وبعض اللغات تلعب دورا مركزيا مهيمنا، وأخرى تحتل أدوارا أقل أهمية وتأثير على الحضارة الإنسانية.
اليوم، تعتبر الإنجليزية والفرنسية والإسبانية والروسية والصينية والعربية لغات رسمية معتمدة في الهيئات الأممية. لكن تأثيرها الفعلي وانتشارها خارج إطار استخدامها الرسمي من قبل الناطقين بها، مرهونان بمدى قدرة الثقافة والشعب المتحدث بها على الإنتاج والإنجاز والتأثير على المسرح العالمي.
في الفترة التي سادت فيها الفلسفة والعلوم اليونانية، انتشرت لغة الفلسفة والعلوم وتركت آثارها على البشرية ولغاتها ورموزها. بعدها كانت العربية حاضرة في الثقافات العالمية، فتعلمت البشرية عشرات الاصطلاحات والمفردات والرموز التي أنتجتها ثقافتنا؛ فعرف "علم الجبر" (Algebra)، واستخدم اصطلاح "المخازن" العربي من قبل اللغة الإنجليزية ليعني "Magazine"، وترجمت مفردة "الحشاشين" لتعني "Assassins".
الثقافة المنتجة تترك أثر إنتاجها وأسماء منتجاتها على اللغات الأخرى. والمجتمعات المستهلكة تستقبل موجات التأثير وتستقر في كيانها من دون أدنى محاولة للمقاومة والدفاع عن بنائها ووحدتها وكيانها.
منذ قرون، ضعف تأثير اللغة العربية وانحسر انتشارها. إذ برغم كونها من أكثر لغات العالم من حيث عدد المفردات وجذورها واشتقاقاتها، فإن الناطقين بها يجدون صعوبة في استخدام وفهم الكثير من المفردات والتراكيب والمعاني، وهي من بين أقل اللغات الحية استخداما في التأليف والنشر والإبداع.
منذ عصر النهضة الأوروبية، وإنتاجه الفكري والعلمي والفلسفي والصناعي، والعرب يستقبلون المنتجات والأفكار والعلوم باللغة التي أنتجت بها، وتارة يحاولون ترجمتها، وأخرى يتعلمون اللغات الأخرى ليستوعبوها من دون أن يبذلوا الكثير من الجهد لإنتاج تجارب وإنجازات جديدة تستند إلى ثقافتهم الأصلية.
في الكثير من العلوم الاجتماعية والتطبيقية، يقضي الآلاف من أبناء الثقافة العربية سنوات طويلة في جامعات ومعاهد الغرب في محاولة لاكتساب علومه ومهاراته وتجاربه. البعض يجد من المناسب أن يستكمل رحلته المعرفية في المجتمعات والثقافات التي انتقل إليها، وآخرون يعودون ليشكلوا طبقة جديدة في مجتمعاتهم تختلف في حياتها وتفكيرها وممارساتها عن مجتمعاتهم الأصلية، وعن الثقافات التي تتلمذوا على معارفها ونهلوا من خبراتها.
اليوم، من الصعب على أي أستاذ أو طالب لغة عربية أن يعد رسالة أو محاضرة من دون استخدام مفردات دخيلة على اللغة العربية يصعب أن يُفهم معناها من دون معرفة باللغة التي انتجتها. وفي أي محادثة عادية بين شخص وآخر يستخدم الأفراد مفردات لا أصول لها في اللغة العربية.
وإذا ما تجولت في أحياء عمان، فإنك ستلحظ عشرات المحال تحمل أسماء يصعب تأصيلها أو حتى ترجمتها إلى العربية. من بين أسماء المحال التي تقدم خدمة أساسية ولا يدل المسمى على معناه في اللغة، محال الـ"Dry Clean"؛ البعض يقصد بها كي الملابس على البخار، وبعض آخر يترجمها "تنظيف الملابس من دون غسلها".
الكبار والصغار، الأميون والمتعلمون، في البادية والريف وفي المراكز الحضرية... يستخدمون مفردات أجنبية دخلت لغتنا واستوطنت فيها، وأصبحت أكثر استعمالا من مفردات أخرى أصولها عربية، وذلك بحكم انتشارها وحيويتها وحاجتنا لها. والقصة لا تنتهي هنا، فهناك أشياء كثيرة لا نعرف معناها ولا كيف جاءت، لكنها أصبحت أهم بكثير من أشياء نعرف معناها وقيمتها، إلا أنها أصبحت فلكلورية بحكم قلة الاستخدام.
الغد