التعليم والفتوحات الجديدة *عبدالحافظ الحوارات
14-07-2016 12:07 AM
في ظلّ السعي المحموم لدول العالم المُنْتِج نحو الإنفراد بالتخصّصيّة والتوغّل بتفاصيلها الدقيقة وصولا لأعلى درجات الجودة والتفرّد والمساهمة الفاعلة في اقتصاد المعرفة ، فمن الواجب علينا نحن في الأردن التوقّف لالتقاط النَّفَس وتفقّد مواضع أقدامنا وتصحيح آفاق رؤيتنا سعيا للولوج القوي والثابت المتّزن في هذا الاقتصاد المتسارع .
أعيش في دبي منذ عقد ونصف ، وأرى بعين المشدوه حُمّى التسارع في تكاثر واستنساخ الأبراج والمشاريع العملاقة وشقّ الطرق التي تكاد تُزيغ الأبصار في محاولة إحصاء مساربها الواضحة ، وكوني تربويّا فإنّ تركيزي سيكون مُنْصَبّا على ملاحظة نموّ الجانب المعرفي ومخاضاته العديدة والتي أراها تصبّ في صالح اشقائنا خاصة وأنا أشهد حجم الإهتمام الرسمي لديهم بالتحديث الشامل للمناهج المدرسيّة وخاصة في العلوم والرياضيات واللغات بالإضافة إلى الارتقاء المدروس في مؤسسات التعليم العالي والذي نجم عنه اقتحامهم بقوّة وحجزهم أكثر من مقعد في فئة الجامعات الخمسمئة الأفضل على مستوى العالم ، كما وأنّهم يُنفِّذون خُطّة عملية لغزو الفضاء وإطلاق أول مسبار عربي نحو غياهبه في خطوة تعكس مباشرة الانتقال لمرحلة إنتاج المعرفة –ولو بجزء يسير- بدلا عن حالة الاندلاق الكلي في الاستهلاك النشط لها .
ينفرد الأردن منذ أمدٍ بعيد بطبيعةٍ مناخيّةٍ جعلت منه مكانا فريدا للزراعة ، فارتقى الانتاج وتنوّعت المحاصيل فجادت الأرض وتجوّد المُنتج ، لكنّ حالات الإضطراب في الجوار أحبطت كثيرا من آمال المزارعين وقلّصت مساهمة هذا القطاع الهام في الناتج المحلّي ممّا أدى إلى ضبابيّة المستقبل وبالتالي الخوف من التمادي في الاعتقاد بأنّ هذا القطاع سيستمرّ في منح الأردن التفرّد والتخصصيّة المطلوبة.
الإنسان الأردني المؤهّل والمتعلّم ، هو نتاج نظام تعليمي متطوّر وذي مخرجات منافسة على مستوى الإقليم وخارجه ، هذا النطام التعليمي الفريد هو خيارنا الذي به نفاخر ، والذي يمكن أن نعدّه ملاذا آمنا ومنطقيا ومعترفا به وبجودته في الإقليم ، وبإمكانه أيضا أن يمنح الأردن التخصصية المطلوبة هنا والتفرّد الذي يليق به ، وكي لا نختفي من سوق التنافسية ولا نفقد هذه السمة التخصّصية الثمينة ، فإنّ هذا القطاع بحاجة ماسّة لعمليات كثيرة ومتتابعة من المراقبة والتصحيح والتهذيب حيثما وُجِدَ الداعي لها ، نُجريها دونما تردّد ، خاصّة إذا علمنا أنّه البيدق الذي يوشك أن يكون الوحيد المتبقّي لنا في خضم التنافسيّة الحارّة من خارج الإقليم ومن داخله أيضا والنابعة بشكل خاص من دول الخليج العربي ، المستهلك الحالي الأكبر لخبرات إنساننا الأردني .
بتاريخ 28 فبراير من هذا العام يُصرّح أمين عام وزارة التعليم العالي بأنّ "700 خرّيج أردني بمرحلة الدكتوراه من إحدى الجامعات في دولة عربيّة بعينها يعودون للوطن " سالمين غانمين لكنّهم فقراء من حيث الحاجة لتخصّصاتهم أو مستوى جودة وجدّية أبحاثهم العلمية وذلك خلال سنتين فقط !!! .
الخبر الثاني : "يدرس في إحدى الجامعات الأوروبيّة 1000 طالب أردني بكليّة الطب هناك " وتضعهم الجامعة في قاعات خاصّة ولا تدمجهم مع الطلاب الآخرين وتتهاون معهم بعدم انضباطهم في الحضور والدراسة وتتركهم ينجحون دون عناء طالما يدفعون إليها ويتخرّجون منها ولن يعملون فيها ...
الخبر الثالث : الأزمة التي تحدّث عنها الإعلام الخارجي أكثر من إعلامنا الداخلي بأنّ 300 طالب أردني بعضهم فَشِل أو تنبّأ بفشلهِ في امتحان الثانويّة العامّة الأردني بسبب التعليمات المشدّدة ضدّ الغش قد قرروا الهجرة عاما نحو الحبشة وتحديدا إلى السودان كي ينالوا برّ النجاح السهل كما فعل غيرهم سابقا بتوجيه بوصلته نحو اليمن السعيدة وغيرها من الدول بحثا عن نجاح أكثر راحة ممّا يلاقونه من عذاب وتشديد ومعاناة في امتحانات الأردن ، مع أنّهم قد نقلوا معهم ثقافة الغشّ وفنونها ، وطوّروا عليها ابتكاراتهم بنكهة محلّيّة بالتعاون مع سماسرة الأسئلة المسرّبة من الأردنيين هناك في السودان إلى أن تمّ ضبطهم وإيقاف أعداد منهم في مكاتب المخابرات الوطنيّة هناك !!!.
الأخبار السابقة تؤكّد لي كتربوي أنّ مسار التعليم العام في وطني يسير للأفضل بعون الله ، فالتضييق على الفئات غير الملتزمة بنيل الدرجة مقابل التحصيل الأكاديمي الصحيح جعلها تفرّ بعيدا إلى حيث يمكنها الحصول على مُبتغاها ، مثلما تبدو المكاشفات والمتابعة التي تقوم بها وزارة التعليم العالي أيضا -رغم بعض الهَنَات- تطوّرا يوازي التغيير الإيجابي الحاصل في منظومة التعليم المدرسي العام .ومثلما أنّ المرحلة الثانوية تجسيرا للمرحلة الجامعية فإنّ إصلاح الأولى بضرورة يقود لإصلاح الثانية فتستقيم وهذا شاهد الربط حيث يهرب الطلبة إلى السودان لينجحوا ثمّ يواصلون الفرار ليذهبوا لجامعة الألف طالب أردني وتتوالى مواكب الخريجين ...
أيّ انفصام ذاك الذي نعيش ، وأيّ مُخرجاتٍ سنحصل عليها من أولئك الخريجين ، وكم من الأجيال ستذهب أرواحها وأنفسها هدرا على أيدي مَن تحمرُّ أرواب تخرّجهم خَجَلا من لابسيها الذين سَيَصطَفّون بعد هُنَيهَةٍ في الصفوف الأولى للمتأفّفين على أحوال البلد والناقمين على الفساد والمُفْسِدين ومع الراجمين أحوال المجتمع بأقذع الصفات والصارخين بِحُنقٍ "إلى متى يبقى ابن الراعي راعيا وابن الحرّاث حرّاثا؟"...
في تتبّعٍ بسيط لجغرافيّة المكان الذي يخرج منه أمثال هؤلاء الطلبة فِرارا إلى الخارج نجده يكاد محصورا على أماكن توزّع شرائح الفقر الواسعة ومناطقها غير المحظوظة وربما نصل إلى الطبقات المتوسّطة كأبعد تقدير ، وهذا طموح مشروع لهم للتغيير وتطوير مستوياتهم للخروج من تلك المستنقعات الطاحنة ، ولكنها الوسيلة –قاتلها الله من وسيلة-هي الشائنة والمعيبة .
قد تُقابِل أمثال هؤلاء في صالات المطار محتشدين فرحا بتخرّج الابن البار العائد من أدغال أفريقيا أو من جامعة الألف عينها في أوروبا ، ثمّ يزاحمون الجميع في صفّ طويل ومزدوج من السيارات "بنظام الفاردة" التي تفاقم مشكلة شوارعنا المكتظّة أصلا مُجبرين الكل على مشاركتهم فرحتهم المالحة ، ثمّ يستيقظون في الصباح ليلعنون الفساد والمفسدين .
ألا تَرَون أنّنا جَوعى مناصب ؟ ألا ترون أنّنا جوعى للمال السُّحت ، جوعى للسلطة المطلقة بلا إنتاج ، جوعى نقدٍ طالما كان بعيدا عنّا . جوعى شهاداتٍ لا تصل قيمتها لقيمة كرتونها المُعاد تصنيعه وقد وُسِمَتْ عليه بمدادٍ أسود أسماؤنا ودرجاتنا . أكُلُّ ذلك لأنّنا وُلِدْنا في زمنٍ كانت تبدو الجامعات فيهِ مُهِمّة ؟! ، رغم أنّني مع رأي "باولو كويليو" الذي يقول مستغربا "هل عليك حيازة شهادة كي تنهض بهذا العالم ؟ ، إن فعلنا ذلك فإنّنا نحرم مجتمعنا من حدائقيّين ممتازين وخبّازين ماهرين ، تجّار تُحَف ، نحّاتين وكُتّاب رائعين" وأضيف بأنّنا ربّما نحرم المجتمع من الصالحين ...
أتوقّف هنا للربط المنطقي الذي سأستخدمه موظّفا الأخبار السابقة وتجسيري لها مع مطالباتنا كمجتمع مُتَحَضِّر بالقضاء على الفساد وبالعزف في كلّ فرح وترح أو حتى مناسبة طهورٍ لصغير على وتر مكافحة الفساد والشكوى من استشرائهِ في كل مفاصل الدولة ، فنبدأ بجلد الحكومة – ولا أبرّئها أو أبرّئ نفسي - وربما تأخذنا سكرة الحديث وعلوّ شدّته وفرط حماستنا لجلد من هم فوق الحكومة ، دون أن ننظر ولو لبرهة نحو دواخلنا ، نحو ذواتنا فَنَنْزِع قليلا مِمّا نُغلّفها به لنصل عُمق الحقيقة المؤلمة ...
إنّنا أيها السادة نعشق الفساد ، تطلبه نفوسنا التوّاقة إليه فتُلْبِسَه الحِلّ والحُلَل والحلال خاصّة حينما يخدم مصلحتنا ، والويل كلّ الويل له إن طوى لنا رغبةً أو شهوةَ أو أزاح عن شفاهنا نعمة وذهبت من نصيب غيرنا بسبب كفاءته أو كفاءة واسطته ، فأسطوانة الفساد جاهزة على المحرّك نُشغّلها فورا ونرجم بها شياطين الإنس والجانّ ممّن نصبِغَهُم بخطيئة الفساد مُعْتَمرين عند اللازوم عمامَتي النزاهة والقضاء ، فنصدر الأحكام جُزافا دونما ضمير ، وهنا يتوارد لخاطري قول ربّ العزّة سبحانه وتعالى "" فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ ".
فلنحافظ على تفرّد الإنسان الأردني فيما بقيَ له من تخصّصيّة يعرفها عنه القاصي والداني ، فلنحافظ على جودة التعليم ومخرجاته التي ستُبقي الأردني منافسا مطلوبا في سوق العمل الخارجي ومكانته محفوظة سامية يُشار إليها بالبنان .
أبارك جهود وزارة التربية والتعليم الأردنيّة في تفعيل القوانين وخنق الفاشلين وكذا جهود وزارة التعليم العالي في كشف الحقائق حتى لو كانت مُزْعِجَة ثمّ المسارعة لحلّها وتصحيح مساراتنا الأكاديميّة ... أمّا أنتم أيها المُحبّون للوطن ، أيها اللاعنون فساد بعض مواقِعِهِ : قوّاكم الله وقوّى جهودكم ووسّع شفافيتكم ....