حين كتب كل من طه حسين وفرانز فانون عن المعذبين في الارض قبل اكثر من ستة عقود، كانا يقصدان الفقراء والمحرومين سواء من المال او الحريّة، لكن الذين يستحقون الان الكتابة عن غربتهم وقهرهم وتهميشهم هم المثقفون الجديرون بهذه التسمية وليس الاشباه والاشباح الذين يقدمون كبدائل صناعية لهؤلاء ولمجرد ملء فراغ او ذر رماد في العيون .
المثقفون في الأرض اصبحت حياتهم على مدار اللحظة وليس الساعة فقط حفلة تعذيب، لأنهم مطالبون بالاعتذار عن وعيهم وعن كل ما قرأوه واكتشفوه، ولو استعرنا من توفيق الحكيم حكايته لقلنا ان عليهم ان يشربوا من نهر الجنون كي ينالوا شهادات حسن سلوك من محيطهم الاجتماعي، وفيما مضى كان للجهل فضيلة واحدة هي الاعتراف والخجل والرّغبة في التعلم، لكن الامر تبدل وانقلبت القواعد والبديهيات رأسا على عقب وأصبح على العارف ان يطلب الغفران من الجاهل، سواء كان مدججا بالقوة او مؤدلجا بالخُرافة !
حفلة تعذيب المثقف في زمن الانترنت ومزاعم الثقافة المستولدة بالانابيب او المستحضرة كالمساحيق من نفايات النفط تبدأ من التلوث المتعدد الابعاد ، تلوث البصر والسمع والشم، فالاغاني الرديئة التي تعج بالمفردات السوقية تعذب الاذن ، وكذلك الاصوات التي تستخدم الطبول بمناسبة وبغير مناسبة، والتصحر المزدوج الذي كان من ضحاياه الشجرة والكتاب ينبعث منه غبار يصيب الروح بالزكام .
واستغرب ان من يتحدثون عن انفلونزا الدجاج والخنازير لا يشيرون الى هذه الانفلونزا التي فيروسها من جهل وفجاجة وتوحش، وبقدر ما يتعذب المثقف العضوي المتضرر من التخلف، يستمرىء نقيضه او الشّبيه الذي يجري تصنيعه كبديل له كل افرازات التلوث، لأنه في الاساس من افراز التخلف، ولأن فاقد الشيء لا يعطيه ولن يعطيه فإن حفلة التعذيب اصبحت بلا نهاية !!
الدستور