بعد أيام يستنشق سعيد العتبة هواء الحرية بعد أن أمضى في الحبس 32 عاما، وسعيد هو ابن اليسار الفلسطيني عندما كان يقود النضال الوطني منذ أن جثم الاحتلال الإسرائيلي على صدر فلسطين.
كما ينتظر أن تفرج إسرائيل أيضا عن الأسير «أبو علي يطا» الذي أمضى نحو 30 عاما في الأسر بعد إدانته بالمشاركة في هجوم أودى بحياة زعيم للمستوطنين اليهود قرب الخليل، وأبو علي هو ابن حركة فتح التي عمّدت النضال الفلسطيني بقوافل الشهداء.
سعيد وأبو علي، يغادران السجن بعد أن تغير العالم، وتغير معه الواقع الفلسطيني، دخلا السجن عندما كانت الحياة والنضال والمواقف أسود وأبيض، وها هما يخرجان وقد انقلب العالم، وأصبح يقف على قرن ثور واحد.
أما الحال الفلسطيني، فيقف على قرون متعددة، أقلها أن النضال أصبح عبر الفضائيات، وأن الفلسطينيين أصبحوا بعد أوسلو، في واقع لا يحزن عدواً ولا يفرح صديقاً، فالشعب شعبان والسلطة سلطتان، والدم الفلسطيني أصبح أرخص من ثمن رصاصة، فعدد الذين قتلوا في الاشتباكات الداخلية يوازي عدد الذين قتلوا في مواجهات إسرائيل.
من سيقنع سعيداً وأبا علي بأن السنوات الطويلة التي ضاعت من عمرهما، يستحقها وطن بعد أن أصبحت قياداته تتقاتل في شوارع غزة، ويطارد بعضهم بعضا، حتى إن الشقيق يهرب إلى حضن إسرائيل خوفا من أخيه.
سعيد وأبو علي دخلا السجن قبل ثورة الاتصالات فلم يعرفا الموبايلات، وكان تواصلهما مع بعض عبر الحلقات الحزبية الضيقة ومباشرة، وعبر رسائل الورق، يخرجان الآن ويشاهدان القيادات الجديدة بالبدلات الأنيقة والسيجار، وقد احتلوا الفضائيات ليشتموا بعضهم، ويصدرون الفرمانات لأتباعهم.
يخرجون وقد احتل مناضلون جدد المراكز القيادية للشعب الفلسطيني ويختزلون طريق النضال الطويل، في السنوات القليلة التي دخلوا فيها على هذا الصراع.
عندما اعتقل سعيد وأبو علي لم تكن العولمة قد عصفت بنا، لذا لم يستعرضا سلاحهما قبل التوجه للمعركة أمام الكاميرات، ولم تنقل عملياتهما على الهواء مباشرة، كما لم تخصص أكثر البرامج الحوارية على القنوات الإخبارية لتحليل عملياتهما صباح مساء.. بصمت توجّها من مدينتيهما وقريتهيما ومخيميهما باتجاه فلسطين. فمدرسة الشهداء لا مكان فيها للتبجح والاستعراض.
يخرجان من زنزانتيهما والخطاب الغوغائي يحتل الصدارة، والقادة الجدد في حركة حماس الذين يظهرون على واجهات الفضائيات أكثر من جلوسهم في بيوتهم، ويوجهون التهم جزافا إلى هذا وذاك، ويمنحون الصكوك في الوطنية والانتماء والخيانة كما يحلو لهم، تصل بهم الأمور إلى تبرير الاشتباكات الدموية المؤسفة والمخجلة بينهم وبين أجهزة السلطة الفلسطينية وفتح.
وما يثير الانتباه والسخرية معا أن حركة حماس تخدع الناس، بمن فيهم المتعاطفون معها ممن يجرون للأسف وراء كل من يرفع كلمة أو شعاراً دينياً أو كل من يربي ذقنا وتظهر على جبهته زبيبة الصلاة، بأن الآخرين شيء واحد (فاسدون، عملاء لمخابرات إسرائيل وأميركا)، وبأن الكل يتآمر ليلا ونهارا ضدهم.
هم يعرفون أن معظم كوادر التنظيمات الأخرى ضد اتفاق أوسلو وعارضوا ياسر عرفات وما يزالون يعارضون أبا مازن ومنهم مروان البرغوثي القابع في سجون العدو، كما أن كتائبهم ترفع سلاح المقاومة وتقوم بعمليات فدائية ذات كفاءة عالية ضد جنود وضباط ومستوطني الاحتلال الصهيوني، قبل أن تولد حركة حماس نفسها.
تتعمد حركة حماس احتكار الوطنية، وهذا للأسف ما يميز حركات الإسلام السياسي إلى الآن، إنها الرغبة الشديدة في تزييف التاريخ وجعله يبدأ فقط مع مولد هذه الحركات.
في الاشتباكات الأخيرة التي وقعت في غزة بين حماس وعائلة حلس المحسوبة على فتح، شيء يدعو للضحك، فحماس التي انقلبت على سلطة اعتبرتها هي نفسها شرعية عندما ترأست هي نفسها حكومة الوحدة الوطنية، ثم اعتبرت نفسها هي أي حماس منبع الشرعية الوحيد عندما سيطرت بالسلاح على غزة، بررت هي نفسها ما قامت به من اعتداء على عشرات الأسر الكبيرة في غزة، والمعروفة بتاريخها النضالي ضد الاحتلال، بحجة أنها تتآمر على «الشرعية» وتؤوي بعض العناصر الخارجة عن القانون، وهنا تتعمد حماس التشويش، وتتعمد طمس ذاكرة شعب بأكمله بأن تبرر لنفسها الانقلاب على السلطة، لأنها وحدها مقياس الشرعية، وأن القانون هو فقط قانون كوادر حماس.
سعيد وأبو علي، لا تغضبا فتكفي حرقة قلوب أمهاتكم، والوطن يبقى الأجمل مهما كانت نوعية قياداته.
osama.rantesi@awan.com
***الكاتب مدير التحرير التنفيذي في صحيفة "أوان" الكويتية