داع رمضان .. وحاضنة العنف
بلال حسن التل
06-07-2016 09:49 AM
ها قد انقضى رمضان ، وأذن برحيله المادي، الذي يأخذ شكل الامتناع عن الطعام والشراب، بعد أن رحل وجوده المعنوي عنا منذ زمن طويل، عندما تحول رمضان من عبادة لها جوهر كان يكدح كل صائم إلى الظفر به إلى عادة يمتنع من يؤديها عن الطعام والشراب، دون أن يمتنع عن أذى الناس بالقول والعمل، وعن قول الزور، وهؤلاء هم الذين قال عنهم رسول الله أن لا حاجة لله بأن يدع أحدهم طعامه وشرابه، وهذا أوضح التحولات التي يشهدها فهمنا لرمضان من سلسلة التحولات التي أدخلناها على المفهوم الحقيقي لرمضان كعبادة، غير أن أخطرها أنه تحول عند البعض من شهر رحمة وسكينة، إلى شهر تكثفت فيه القسوة والجريمة التي ترتكب بعضها عصابات مسلحة تدعي الانتساب للإسلام لكنها مارست في رمضان القتل غدراً وغيلة، كما حدث في الهجوم الآثم على مكتب مخابرات عين الباشا، أول ايام رمضان من هذا العام، وكما حدث في الاعتداء الآثم على مركز مساعدة اللاجئين في منطقة الرقبان في منتصف رمضان، وهما اعتداءان يدفعاننا إلى الدعوة للتأمل في دلالات هذا التصاعد في موجة العنف التي شهدها بلدنا خلال رمضان الذي مضى قتلاً بكل أنواع السلاح، وصولاً إلى القتل بالحرق مما يشكل صيحة نذير من حجم التحولات القيمية والسلوكية في مجتمعنا، وأهمية الانتباه إلى هذه التحولات السلوكية التي صارت حواضن خطيرة مولدة للتطرف الذي يتحول إلى عنف وهما الأرض الخصبة للتكفير. فهل نعي هذه الصيحة فنعمل على تدارك أسباب هذا العنف الذي لم ننجح في كبحه حتى في رمضان شهر الرحمة والروحانيات؟
إن موجة العنف التي شهده رمضان هي جزء من سلسلة تحولات سلبية خطيرة طرأت على مفاهيمنا وأصابت حتى مفهوم العبادة عندنا، من ذلك أن رمضان لم يعد عند الكثيرين منا شعيرة دينية، بل صار طقساً اجتماعياً يشارك فيه أناس كثيرون لا يصومون نهاره، لكنهم يمضون ليله في صخب وفي حفلات، فيها كل شيء إلا ما يمت إلى معنى رمضان الشعيرة والعبادة، بل فيها الكثير مما يتناقض مع معاني ودلالات شعيرة الصوم. فرمضان الذي فُرض ليربي الناس على معنى الشعور بالآخر، وعلى معاني التقشف والزهد وعلى معاني الرحمة والتسامح، صار في ظل تحوله إلى طقس اجتماعي. موسم للترف والإسراف، الذي تتسابق في تشجيع الناس عليه مؤسسات إعلامية ضخمة، سُخرت لتغذية نزعة الاستهلاك والجشع لدى الناس، أقل مظاهرها سوءً هذه البرامج المكثفة عن أنواع الطعام والشراب، وأصناف الموائد الباذخة الممولة من الشركات المنتجة أو المستوردة لشتى صنوف الطعام، وكأن شهر رمضان هو شهر التنافس على ملذات الموائد في تسابق إعلاني عن غذاء البطن ليس أبشع منه إلاهذه الإعلانات عن حفلات الرقص والغناء في ليالي رمضان، ناهيك عن ما يجري فيما صار يسمى زوراً وبهتاناً بالخيم الرمضانية.
كثيرة هي السلوكيات التي تتناقض مع مفهوم رمضان كشعيرة تعبدية، فقد صار الكثيرون يستغلون رمضان لقيام بنشاطات صارت تلعب دوراً كبير في تحويل رمضان من شعيرة تعبدية إلى طقس اجتماعي، ليس فيه من العبادة شيئاً، خاصة عندما تستغل هذه الأنشطة كوسيلة للتهرب الضريبيي أي لسرقة المال العام، واستثماره في الدعاية والإعلام عن شركات لا تؤدي من مسؤوليتها الاجتماعية شيئا، ويزيد الطين بلة أن الكثير من أنشطة هذه الشركات صارت تتاجر بآلام الفقراء وكرامتهم، وهو تحريف لمعنى عبادة رمضان، لا يزيد عنه سوءا إلا استغلال بعض الحركات المشبوهة لترويج نفسها من خلال أنشطة رمضانية ظاهرها الرأفة بالفقراء والمساكين، وباطنها نشر قيم ومفاهيم لا علاقة لها برمضان ومعانيه كشعيرة تعبدية.
يضيق هذا المقال عن حصر الشواهد الدالة على تحول رمضان عند الكثيرين إلى مجرد طقس اجتماعي وموسم تجاري، غير أن التحول الذي لا يجوز أن نستهين به هو هذا الجنوح إلى العنف الذي أصاب مجتمعنا إلى الدرجة التي لم نعد نراعي فيها سكينة رمضان ومعاني الرحمة التي فُرض من أجلها.
الراي