استثمارالدولة في الصحة و التعليم
المحامي عبد اللطيف العواملة
04-07-2016 07:28 PM
نعيش منذ اواخر الثمانينيات نهجاً اقتصادياً متغيراً في مجالات عدة مع استثناءات محددة منها قطاعي الصحة و التعليم. فكلما نطق احد بكلمة تنادي بتركيز الدعم و الاستثمار الحكوميين في الصحة و التعليم، تبرم كثير من المحللين و حذروا من انعكاسات سلبية خطيرة على مسيرة التصحيح. هؤلاء النقاد يحذرون بأن هكذا نوايا تسير بعكس التيار لان هذين القطاعين هما محط اهتمام المستثمرين و بالتالي على الحكومة التركيز على قطاعات اخرى اقل جذبا للمال الخاص.
صحيح ان المال الخاص قد اغدق على الصحة و التعليم (بجميع مراحله) في العشرين عاماً الاخيرة حتى اصبح يخيل للمرء ان لدينا مدارس و مستشفيات خاصة عند كل منعطف طريق، و كذلك الجامعات، و لكن هل تبني الادارة الخاصة البحتة لوحدها جيلاً مسوؤلاً صحيح العقل و البدن؟ و هل تحقق العدالة الاجتماعية؟ فهل هي لجميع الناس و هل لديها اهداف و سياسات تنموية منسقة و واضحة؟ و هل تهتم بغير المدن الرئيسية و هي معدودة؟ حتى الدول التي اخترعت الخصخصة و الاقتصاد الحر لم ترفع يدها عن التعليم الحكومي و الرعاية الصحية الحكومية بل زادت من الاهتمام بهما و هذا واضح على المستوى الدولي، فمن في الواقع يسبح عكس التيار؟
يعرف الجميع ان الخصخصة هي وسيلة و ليست غاية في حد ذاتها. قيل لنا ان الخصخصة تهدف الى تطبيق الاساليب الادارية المتوافرة لدى القطاع الخاص في مؤسسات القطاع العام حيث ان القطاع العام كان لاسباب كثيرة يعجز عن الاستفادة من هذه الخبرات بوضعه السابق. هذا جميل، و لكن هل تسآلنا ما هي الخبرات و الاساليب الادارية التي يمتلكها القطاع الخاص الاردني مع كل ما تعانيه من مشاكل ليست خافية على احد؟ في الحقيقة فان التميز الاداري في الاردن بمجمل تاريخه هو حكومي و ليس خاصاً. الاقتصاد في الاردن هو الصرف الراسمالي و التشغيلي الحكومي و معظم القطاع الخاص يدور في فلك ذلك و يعتمد عليه. من النادر التحدث في الاردن عن قطاع اقتصادي ليست محوره الحكومة و ان كانت صبغته خاصة.
بعد سنوات طويلة من الانخراط و الالتزام ببرامج التصحيح الاقتصادي المضنية، آن الاوان ان نقوم بمراجعة شاملة حقيقية و شفافة لكل ما تم بايجابياته وسلبياته. كل المراجعات السابقة تمت على استحياء وبشكل يفتقر الى الشمولية. يؤكد اقتصاديوننا في الاردن، و هم كثر، ان برامج التصحيح قد نجحت بشكل كبير في تحسين مؤشرات الاقتصاد الكلي في ما يتعلق بالمديونية (مع انها في ارتفاع) و الموازنة وعلاقة الاردن الايجابية مع البنك الدولي و صندوق النقد، و منظمة التجارة الدولية، و تحديث قوانين الاستثمار، و اتفاقيات تجارة حرة و انشاء مناطق اقتصادية و صناعية خاصة. و لكن هولاء انفسهم يعترفون ان ذلك لم ينعكس على الاقتصاد الجزئي بايجابيات ملموسة، فمستوى الدخل الحقيقي في تدني والبطالة في ارتفاع. بالطبع فانه لا يمكن اغفال الوضع الاقليمي المعقد و الصعب منذ سنوات و اثره السيء على اقتصادنا و قدرتنا على التخطيط السليم.
نقول للخبراء، ما نفع مديونية "تحت السيطرة" و موازنة "بلا عجز" و ترتيب عالي عند المؤسسات المقرضة، فرضاً، اذا صاحب ذلك ضيق مادي شديد على الاسرة، و بطالة، و هجرة كفاءات، و تباعد بين طبقات المجتمع، و عناية صحية اقل من المستوى، و تعليم منحفض الجودة؟ الم يؤدي الافراط في ادارة الموازنة الى تخفيض العناية الصحية و سحب اليد من التعليم شيئاً فشيئاً و ما لذلك من تبعات اجتماعية و امنية معروفة ليس اقلها العنف المجتمعي المتزايد؟
الصحة و التعليم من اكبر و اهم القطاعات في اي اقتصاد لما لهما من تماس مباشر و يومي بحياة و مستقبل المواطن و هما في نفس الوقت خدمات استراتيجية و طنية لها تاثيرات مضاعفة هائلة على كل ما حولها، لا يعادلهما في ذلك اي قطاع اخر. اذا صلح التعليم و صلحت الصحة فالبلد بخير نفسياً و اجتماعياً و اقتصادياً و سياساً و كان مستقبلها بالف خير. من الحكمة الاهتمام الفوري الحكومي بالتعليم و الصحة، فهما حاجة آنية و في نفس الوقت من افضل استثمارات المدى الطويل، و بذلك تشعر الطبقة الوسطى بالدعم الفوري الحقيقي بالتزامن مع تعظيم مقدرات البلد و تأمين مستقبله. ثورة بيضاء في التعليم و الصحة يمكن ان تشكل المحور الاساسي لمشروع نهوض وطني متكامل يعيد صياغة المستقبل الاردني هدفه الخمسون عاماً المقبلة، و ما بعدها.
• لواء متقاعد