من عاش مجاملا .. مات حزينا
د. صبري ربيحات
01-07-2016 01:31 AM
من أكثر المقولات التي كنت أسمعها في قرانا، على لسان العشرات من الكبار؛ رجالا ونساء، مقولة: "من عاش مجاملا.. مات حزينا". وفي الثقافة القروية المحافظة، كانت المجاملة سلوكا مرغوبا، وصفة محمودة، يجري تنشئة الصغار على ممارستها، ويتبارى الكبار في إتقان فنونها. فالمجتمع تقليدي، يسيّره الكبار؛ وعلى الجميع واجب الحفاظ عليه من خلال احترام العادات والتزام التقاليد والانصياع للأعراف، ومجاملة الكبار وإظهار الطاعة والاحترام لكل الأوامر والطقوس والرغبات التي يعتقد الجميع أنها ضرورية لبقاء الجماعة واستمرارية وجودها.
وسط هذا النظام الصارم، يضيق كثير من الأفراد بالقواعد والبروتوكولات والممارسات التي لا يرون لها وظائف عملية غير إعادة إنتاج الواقع الذي يرغب غالبية الناس في مغادرته إلى أوضاع أكثر ملاءمة لطبيعة الناس واحتراما لتفكيرهم وشعورهم وتطلعاتهم. الأفراد الذين يعايشون التناقض بين ما يفكرون فيه ويتطلعون للقيام به من جانب، وما تمليه عليهم العادات والأعراف والتقاليد من ممارسات يؤدونها وهم كارهون، من جانب آخر، يجدون عزاءهم في الجملة التحريضية التي أنتجتها الثقافة التقليدية ذاتها: "من عاش مجاملا.. مات حزينا".
في مجتمعاتنا اليوم، وبالرغم من امتلاك المعرفة والكثير من أدوات التعبير والتغيير، ما تزال المجاملة تسيطر على الكثير من تصرفاتنا في المواقف والأحداث والمناسبات التي نعايشها، مخلفة مستويات من الحزن والكآبة على ملامح ووجود ونوعية حياة الأفراد. الكثير من الطلبة اللامعين يلتحقون ببرامج وتخصصات تعليمية ومهنية إرضاء لرغبات الآباء وإشباعا لأحلام الأمهات، فيقتلون كل دوافع الإبداع في ذواتهم، ويمضون أجمل سنوات أعمارهم في محاولة إقناع أنفسهم بأهداف ومسارات تتعارض مع رغباتهم الحقيقية.
بالرغم من تحرر الكثير من الفئات العمرية الشابة من الضغوظ التي يمارسها المجتمع التقليدي على أعضائه، فإن الآلاف من الرجال والنساء، في الأرياف والبوادي والمخيمات، ما يزالون يختارون شركاء حياتهم بناء على توصيات الآباء وخيار الأمهات، من دون إعطاء وزن حقيقي لعوامل المشاعر والرغبة والتوافق، متجاهلين الأسس التي تقود إلى حياة أسرية سعيدة.
المجاملة الدائمة، والانصياع للتقاليد، سمة من سمات مجتمعاتنا. وهما مسؤولان، بدرجة كبيرة، عن ارتفاع معدلات الحزن والكآبة الظاهرة على ملامح الأفراد وسلوكهم في الفضاء العام، ومبالغة البعض في محاولة التحرر من الضغوط الناجمة عن الطاعة والانقياد لهذه التقاليد في الفضاء الخاص.
في الخطاب السياسي العربي، هناك قدر كبير من المجاملة التي لا تنتهي. فلا تمر مناسبة أو لقاء من دون الحديث عن الأخوة والدعم والتضامن والمصير المشترك. واختلاف الممارسات عن الأقوال يخلق الكثير من الإحباط، ويضعف الثقة ويبث الشكوك في سلامة النوايا والمنطلقات.
المنظومة القيمية التقليدية لها قوة خارجة عن الأعضاء، وتمارس الكثير من الضغوط على السلوك الظاهر للجميع، لكنها لا تضمن الالتزام الحقيقي بتنفيذ ما يلتزم به الأعضاء.
الأزمة الناجمة عن استمرار سلوك المجاملة تورث من يستسيغونها الحزن، وتحرمهم من فرصة اختبار قدرتهم على العمل والتجربة والإبداع، لحساب إعادة إنتاج الواقع حسب شروط ورغبات القوى المهيمنة.
في عالم تتسع فيه الخيارات وتتنوع مصادر القوة والاختصاص والملاءمة، يصعب أن يكون للمجتمعات التي لا تحترم إمكانات وقدرات وحاجات وطموحات أعضائها مكان بين الشعوب والأمم المؤثرة. غالبية أبناء جلدتنا الذين أبدعوا في المجتمعات التي حلوا ضيوفا عليها، يعزون نجاحهم لمستويات الحرية التي أتاحت لهم استثمار وتوظيف طاقاتهم من دون الحاجة إلى استنفاد وقتهم في المجاملة، أو إقناع القوى التقليدية المهيمنة بأهمية منحهم الفرص أو إتاحة المجال لطاقاتهم.
الغد