لا يهم كثيرا إن كنا نحبهم أو لا نحبهم، ولكننا نحمّلهم مسؤولية كثير من الكوارث التي حلت بنا من فلسطين إلى العراق...، واليوم لا نملك إلا أن نعجب بهم وبديمقراطيتم، وامتلاكهم لحرية التعبير الحقة والشجاعة، ونحترمها.
خرجت بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بعد أن أعطت شعبها الفرصة الكافية لاختبار التجربة الجديدة عن قرب مدة 43 عاما من العضوية، محتفظة ببعض ما يميزها مثل عملتها، وضرورة الحصول على تأشيرة خاصة بها...
بعد ذلك استفتته في البقاء أو الخروج. بأغلبية تعادل 4٪ فقط، إذ حسم مصيرها الخطير أكثر من 17 مليونا و400 ألف مصوّت بريطاني صوتوا لصالح قرار الانفصال عن الاتحاد الأوروبي مقابل 16 مليونا وقرابة 120 ألفا صوتوا لصالح البقاء فيه.
يرى كثير من المحللين أن بريطانيا رمت نفسها إلى المجهول اقتصاديا وسياسياً، فالجنيه الإسترليني انخفضت قيمته، وقد تزداد انخفاضا، وكذلك الأسهم وسوق العقار...والاسكتلنديون بدؤوا إجراءات الانفصال عن المملكة المتحدة، وقد يتبعهم الإيرلنديون وغيرهم.
لم تقم الحكومة البريطانية بإفساد الاستفتاء، ولا اتهام المتحمسين للخروج من الاتحاد بأنهم عملاء قاموا بزعزعة أمن البلاد والعباد، ولم تتخذ قرارا بضرورة التزوير، ولم تشتر الأصوات ولا ضمائر الناس؛ لتضمن استقرار اقتصادها أو وحدة مملكتها، ولم تعمل الحكومة ما يوجب بقائها على عرشها، ولم يقل ديفيد كاميرون أنا خط أحمر؛ ليحتفظ بموقعه رئيسا للوزراء، ولم يقل إذا تركت كرسي الوزارة لن تجدوا غيري قادرا على إدارة بلادكم، ولم يقل إن النظام كله سينهار، ولم يخطب خطبة عصماء يقنع شعبه فيها بقدرته على التلون للانسجام مع التجربة الجديدة بعد قرار الشعب الخروج من الاتحاد الأوروبي، ولم يتهم الآخرين بمؤامرة كونية، ولم يقل سأضرب شعبي بالبراميل المتفجرة تأديبا لهم أو لثنيهم عن قرارهم، ولم يرتكب المجازر بحق النساء والأطفال...
لم يجهز الطائرات والدبابات لقصف المدن البريطانية التي صوتت بغالبية كبيرة لصالح الخروج من الاتحاد مع أنها معروفة، ولكن اعترف بالنتيجة، واستقال محترما قرار شعبه قائلا: البلاد بحاجة إلى قيادة جديدة"؛ لإن الديمقراطية عندهم لا تتجزأ ، فهي ليست بحرية اتخاذ القرار، أو التعبير عن الرأي فقط، ولكنها متوافرة في مراحل كثيرة من حياتهم يدربون عليها أطفالهم في الأسرة، والمدرسة، وبالتالي لا تبنى مؤسساتهم على شخص واحد إذا غاب انهارت المؤسسة، فالبدائل كثيرة، والتنافس على أشده، كل يحارب بأسلحة الحوار والجدال في سبيل قناعاته سواء كان من اليمين المتطرف أو من الحزب الحاكم أو غيرهما.
صورة مناقضة لحكام العرب وساستهم، فبعد كل قرار شعبي لا يعكس رغباتهم يلجؤون إلى العنف، والقتل وتعذيب الشعوب، وسجن أصحاب الرأي المخالف...
ماذا لو استفتى الجبارون في دول ما يسمى بالربيع العربي شعوبهم بعدما ثاروا عليهم، وسلموا بضرورة نقل السلطة لغيرهم ممن ترضاهم هذه الشعوب، وكم وفرنا من الدماء والأرواح والدمار؟!
الغريب أن عددا من الكتاب العرب هم من انبروا للتهجم على قرار الغالبية من الشعب البريطاني محذرين من عواقب اقتصادية واجتماعية وخيمة، في حين أعلنت الحكومة البريطانية المهزومة: أنها اتخذت كل الاحتياطات الممكنة لحماية الاقتصاد وتوفير السيولة، ونسي هؤلاء الكتاب أن الامم الحية بديمقراطيتها قادرة على إصلاح أخطائها، هذا لو سلمنا مع هؤلاء الكتاب أن البريطانيين اتخذوا قرارا خاطئا بالتصويت لصالح الخروج من الاتحاد.
إن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي هو قرار سيادي للشعب البريطاني وحده؛ والحرية التي منحت لهم هي الضمان والسلامة لهذا القرار مهما بلغت خطورته، فهل نحلم نحن العرب أن نكون في يوم من الأيام مثلهم نملك الحرية المسؤولة التي تؤهلنا لأن نصبح مالكين لإرادتنا وقراراتنا، ولكن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا أنفسهم.