مُدهِشٌ هَذا الأردنُّ، بِبُسطائه، وبِبعضِ كِبارِهِ..
ثَمّةَ قَولٌ مأثور لـِ«سُفيان الثَّوريّ»، فَقيه البصرة، في منتصف القرن الثاني الهجري، حينَ شَاهدَ بَطشَ شُرطةِ الحَجّاجِ بالناس، في البيوتِ والأسواقِ، مُفادهُ:
«إذا رأيتم شُرطياً نائماً عن صلاةٍ، فلا توقظوه لَها، فإنّه يقومُ لِيؤذي النَّاسَ»؟!
وهُوَ مأثورٌ استعارَه الروائيُّ العربيُّ الراحلُ، عبد الرحمن منيف، في روايته الشَهيرةِ «الآن هُنا... أو شرق المتوسط مرّة أخرى»، في سياقِ شَهوةٍ روائيّة عارمة، من أجلِ فَضْحِ أساليب تعذيبِ المعتقلين الجنونيّة والإجراميّة، التي شَهدَتها المنطقةُ العربيّة، بجنونٍ، خلال العقود الماضية.
وإلى اليوم، ظلّت محاولات السُلطات العربيّة، الحَثيثة، تَسعى جاهدةً، لتغييرِ هذا المفهوم، في ثقافة النّاس، ولكن من دون جدوى..!؟ والحقُّ، أنّ جوهرَ هذا الفَشلِ يعودُ، في الأساسِ، إلى عَدم تفريقِ تلك السلطاتِ بين جَدوى الوَعظِ والقَولِ، وبين جَدوى القولِ المقرون بالعمل، أو القولِ المُعَبَّرِ عنه بالعَمل.
هَزّاعُ الأردنيُّ (الذنيبات)، الذي عَرفَه، مُعظمُ الأردنيّين، في حادثته الشَهيرة مع المرحوم الملك حسين. حينَ أوقفَ شُرطيُّ السير البسيط، الموكب المَلكيّ للحسين، في تقاطع المصدارِ المكتظّ، من أجل مرورِ سيّارةِ إسعاف. فقابَلهُ الحَاكِمُ، وعلى غير ما هو مألوف، بالنزولِ من سيّارته، وتأدية التحيّة العسكريّة له؛ من مَلكٍ لِشُرطيٍّ بسيطٍ، احتراماً لالتزامه بقانون السيرِ، الذي يُعطي الأولويّة لسيّارة الإسعاف، على غيرها من الحافلات، ولم يستثنِ القانونُ الملكَ أو موكبه من ذلك..!
كَغيري، تفتّحَ وَعيي، حين كنتُ فتىَ، في أواخر السبعينيّات، على تلك الحادثة. فحرصتُ على البحث عن ذلك الشرطيّ كَي أراه، لا من أجل تفاصيل الحادثة، بل لما رافق الحادثة من تضخيمٍ، حول براعةِ شرطيِّ السيرِ، وحركاته، التي وصَفها البعضُ، آنذاكَ، بـ«البَهلوانيّة»..! والحَقُّ، أنّها لم تَكن كذلكَ..
ودارَت الأيامُ. وتمّ استدعاءُ الرجلِ، من تقاعدهِ، في السنوات الأخيرة، ولأسبابٍ قد تكون تراثيّة، عند البعض، ولكنّها، في الجوهر، كانت حاجةً ملحّةً لإدارة السير، مع اكتظاظ أزمة المرور في عمّان، ولتعذّر وجود بدائلَ مماثلة للرجل، في حيويتهِ ونشاطه.
في العامين الأخيرين، كُنتُ أراه يوميّاً، على إشارةِ العبدليّ، كلّ صباح، أثناء إيصال أبنائي إلى مدارسهم. كان الرجلُ السَبعينيّ، النّحيلُ، كتلةً من الطاقةِ والحركة الدائبةِ. وعلاوة على حركاته اللافتة، والتي جوهرها شَدّ انتباهِ السَّائقين، على التقاطعات، إلى التركيز مع شُرطيِّ السير، وبطريقةٍ محبّبةٍ ولافتةٍ، وناجحة. ما دفعَ كَثيرين، وأنا منهم، إلى الحرص على إلقاء تحيّة الصباح، على الشرطيّ النشيط والمبدع في آنٍ معاً.
وهُنا، وعلى عَجَل، تَسمعُ، ولا ترى، فَيضَ المحبّةِ والطيبةِ، في الرجلِ الجَنوبيِّ:
«صباحُ الأنوارِ. الله يحيّيك. الله يوفقّك... »
فَيضٌ غَزيرٌ، من أدعيةَ الخيرِ الصباحيّةِ، يُلاحقُكَ بها شُرطيُّ السيرِ الجنوبيّ، رَدّاً على تحيّتك، فتَسمَعُ آخرَها، بعد أن تكون قد تجاوزتَه، نتيجةَ الاستعجالِ وأزمةِ المرور الخانقةِ، بأمتارٍ كثيرة. فتَخجلُ، لأنّك لم تَكُن بوافرِ فَيضِ تحيّته الغَامرةِ..!
أنا واحدٌ ممن قرأوا الآن هُنا، ومدى الفظاعةِ، التي رافقت رجلَ الشرطة في بلادنا، وهي محقّة. كما أنّني قرأتُ تفاصيلَ التفاصيلِ عن شرطةِ الحجّاجِ وبَني أميّة، وعن إيذائهم للنّاسِ، وعن دَعوةِ الثّوري لإبقائهم نياماً، وعَدمَ إيقاظِهِم، حتّى لَو كان ذلكَ من أجل الصلاة. غير أنّي، وعلى الرغم من كلِّ ذلكَ، حَرصتُ على التوقّفِ كلَّ صباحٍ، عند إشارة العبدليّ، ولو لِهُنيهةٍ، وأفرحُ، على غير العادةِ، حين تكون الإشارةُ حَمراء، وذلكَ كَي أُرِي أبنائي شُرطيّاً عربيّاً غيرَ شُرطيّ الحَجاجِ، ناهيكَ عن الاستمتاعِ بحركاته المودّبة، والمتحضّرة، في حثّ السائقين على متابعةِ السيرِ وملاحقة الإشارة الضوئيّة التي أعلَن عن فتحها لتوّه..
إلى رحمةِ اللهِ الواسعةِ، أيّها الشُرطيُّ الجَميلُ والنّبيلُ. وطُوبى لأردنّ النّاسِ البسيطين والكادحين.. وطُوبى لِهَزّاع.
_____________
fafieh@yahoo.com