في عامين فقط انتقلت داعش من مرحلة التمركز الجغرافي , الى مرحلة التوسع الجغرافي وصولا الى التمدد الديموغرافي .
في المرحلة الاولى كانت استراتيجية التنظيم تستند الى اولوية “ الامساك “ باوسع مساحة من الارض واكبر عدد من السكان لاقامة “ الدولة “ واشهار الخلافة , نجحت في ذلك حين استولت على الموصل في العراق والرقة في سوريا , وفتحت الحدود بين “ المركزين “ واخضعت السكان لادارتها ، ثم انتقلت الى المرحلة الثانية حيث توسعت في حدود المناطق التي سيطرت عليها , ومدت انظارها الى الخارج , واستطاعت خلال عام واحد ان تستقطب تنظيمات كانت محسوبة على القاعدة او على الخط العام لما يسمى “ بالجهادية “ العالمية لمبايعتها , وفعلا حصل ذلك وبلغ عدد التنظيمات اكثر من (40) تنظيما في (16) دولة ابرزها سيناء المصرية واليمن والصومال والقوقاز ونيجيريا ومالي وقد اعترفت داعش بنحو “ 20 “ فرعا لها في(10) دول حتى الان .
داعش الان في مرحلة التمدد الديموغرافي , وهذه المرحلة تستند من رؤية التنظيم الى اعتبارين : اولها الخروج من حصار المكان الى فضاء عالمي اوسع يسمح لفكرة الدولة القائمة على الارهاب المعولم ان تصدم وتؤثر وتردع , والاعتبار الثاني الدخول في الصراع الاقليمي والدولي من اوسع ابوابه بهدف الانتقال من دائرة الدفاع الى دائرة الهجوم , ثم العبث في معادلات السلم العالمي واثبات القدرة والامكانية على اختراق الحصون الخارجية , سواء لجذب المزيد المؤمنين بالفكرة او لتقليل الضغوط التي تتعرض لها مراكز التنظيم ،وصولا الى تعميم الارهاب الذي يتغطى بمفهوم الجهاد والمظلومية على اوسع نطاق .
تعتمد داعش في استراتيجية التمدد الديموغرافي على هدفين , احدهما جذب المتعاطفين معها الى صفوفها , وتوظيفهم او استخدامهم “ كذئاب “ للقيام بعمليات منفردة محددة ضمن “ بنك “ الاهداف الذي تحدده خارج حدودها الجغرافية , كما حدث في باريس وبروكسل واسطنبول او تحريك فروعها في بعض الدول لشن هجمات نوعية ضمن اهداف مختارة , كما حدث في اليمن وليبيا , اما الهدف الثاني فهو ايجاد حواضن اجتماعية تسهل عليها مهمة التمركز والامساك بالارض , او التغلغل داخل المجتمعات لتميكن اعضائها من الترويج لفكرتها , او كسب التعاطف معها , او تنفيذ العمليات التي تخطط لها , بشكل مركزي , اوبدون اوامر مباشرة .
انحسار داعش جغرافيا في سوريا والعراق , لا يعني ابدا هزيمتها في المدى المنظور , كما لا يعني موت الفكرة التي استندت اليها , اولا لان داعش نتيجة لظروف موضوعية ما زالت قائمة ولا يبدو ان هناك افقا لزوالها او حلها , وثانيا لان داعش تتغذى على الصراعات الداخلية والاقليمية والدولية ولا يوجد -حتى الان – ارادة لمواجهتها او القضاء عليها , وثالثا لان بديل ما بعد داعش , خاصة في سوريا والعراق , يدفع الحواضن الاجتماعية , التي تستند اليها الى القبول بها , ولو مؤقتا , خاصة اذا كان هذا البديل غريبا عن المنطقة , ويمارس ما تمارسه داعش من توحش , ومثال ذلك ما حصل في الفلوجة من قبل ميليشيات الحشد الشعبي او في اطراف الرقة من قبل جيش سوريا الديموقراطي ( الكردي ) .
الصراع على داعش انتقل من اطار حرب( الملة الواحدة ) ضد عدو مشترك , الى اطار الحرب بين مكونات “الامة” ( الشيعة والسنة ، العرب والاكراد ) ، هنا روجت داعش لنفسها كمنقذ للطائفة المظلومة , وكمدافع عن الامة المستباحة , وقد استفادت من فشل الدولة وموت السياسة وشيوع ثقافة الرفض والاحتجاح ضد الانظمة المستبدة ( العراق وسوريا ) ومن تواطؤ العالم مع هذه الانظمة , في طرح نفسها كبديل وحيد لمواجهة هذا الواقع والخروج منه .
يمكن ان نفهم العمليات التي قامت بها داعش مؤخرا , سواء في تركيا او في لبنان او الاردن , في سياق التحولات التي جرت على استراتيجية داعش , بعد الضغط عليهم جغرافيا ومحاولتها التمدد ديموغرافيا , واعتقد ان هذه المرحلة ستكون الاخطر والاكثر شراسة في مواجهة داعش مع محيطها الخارجي , كما انها ستفرز نسخة جديدة من الارهاب الاشد توحشا , وهو بالنسبة لداعش ليس مكلفا لان من يقوم بهذه العمليات عدد من المتعاطفين المؤمنين بالفكرة او المجندين , كما انها من جهة ثانية تمنحها طاقة للتجدد والتمدد وجذب المؤيدين وارباك العالم والحاق الخسائر به , هذا – بالضبط – ما يريده التنظيم الذي اصبح يمتلك شبكة من الفروع وعشرات الالاف من المقاتلين وارضية سسيولوجية تغذيه ، ومصالح اقليمية ودولية تتواطأ معه , والاهم من ذلك ايدولوجيا يتغطى بها، وتوحش اصبح يثير الرعب في العالم كله .
الدستور