أشرت في المقال السابق إلى أن أعظم دعاة الإسلام, وقادة حركات الإصلاح الإسلامية, وأهم مفسري القرآن الكريم, لم يكونوا من خريجي كليات الشريعة, ودعوت إلى إعادة النظر في مناهج كليات الشريعة في بلادنا, لتوسيع مدارك طلابها وإعدادهم لتعليم الناس فن الحياة, لأن الإسلام هو دين الحياة الذي جاء ليستوعب كل مكوناتها, وهو قبل ذلك دين يتعامل مع الناس كافة, فقد تضمنت أحكامه قواعد للتعامل مع كل الناس الذين يعتنقونه والذين لا يعتنقونه, ولذلك فان الكثير من آيات القرآن تتحدث عن الإنسان بالمطلق بصرف النظرعن دينه ومعتقده ولونه وجنسه, خاصة عندما يتعلق الأمر بحق الحياة, «من قتل نفساً بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا»,
وكذلك حق الاعتقاد «لكم دينكم ولي دين» و «لو شاء ربك جعل الناس أمة واحدة « والحق بالعدل «ولايجرمنكم شنئان قوم على أن لا تعدلوا إعدلوا هو أقرب للتقوى».وحق المساواة المبنية على وحدة الأصل والنشوء «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى» «يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة» (النساء) وهذا الحق هو الذي دفع الخليفة الراشد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب إلى الطلب من المسيحي القبطي المصري أن يضرب ابن الوالي العربي المسلم بالسوط قصصاً من ابن الوالي, وترسيخاً لمبدأ العدل والمساواة والحرية عندما أطلق قولته الخالدة «متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً».
كثيرة هي النصوص والممارسات التي تؤكد أن الاسلام دين للحياة جاء ليتعامل مع الجميع على قاعد «تعالو الى كلمة سواء بيننا وبينكم» وعلى قاعدة «لتعارفوا»,وعلى قاعدة «وتعاونوا» وكل من يدقق في نصوص وثيقة المدينة المنورة, التي وضعها رسول الله عليه السلام لتنظيم أول مجتمع وأول دولة في تاريخ الإسلام, لابد له من أن يتوقف عند مؤشر مهم هو أن الوثيقة التي هي دستور الدولة الإسلامية الأولى لم تنص على أن دين الدولة هو الإسلام, ومثلما أن الوثيقة لم تفرض على أحد من سكان يثرب أن يدخل في الإسلام, أو أن يحتكم إلى أحكامه, عل العكس من ذلك فقد أبقت الوثيقة لكل مكون من مكونات يثرب حقه في الاعتقاد, وحقه في الاحتكام الى ما يؤمن به من معتقدات وأحكام وأعراف, على أن لا تُؤتى المدينة من قبله, وأن لا يكون عونا لأعدائها. أي أن وثيقة رسول الله بنت مجتمع المدينة على أساس المواطنة التي تؤمن بالتعددية الدينية والعرقية, وحق الناس بالعدل والمساواة وواجبهم بالتعارف والتعاون, وهذه كلها مفاهيم نحب أن تعود إلى صلب مناهج كليات الشريعة في بلادنا حتى تتساوق هذه المناهج مع روح الإسلام, ولتكون قادرة على إعداد دعاة قادرين على تجديد هذه الروح وتجسيدها في واقع الناس.
أنني أدعو إلى ما هو أكثر من ذلك,وهو أن لا يقتصر إعداد الدعاة على كليات الشريعة وحدها,فما المانع بأن يفتح المجال أمام الراغبين من طلبة الكليات الاخرى, «طب, هندسة, علوم, آداب, أجتماع, فلسفة, تاريخ,....الخ» في تلقي مساقات في علوم الفقه والشريعة وفق ترتيب يتم الوصول إليه, كأن يفتح المجال أمام الراغبين من خريجي الكليات الأخرى للحصول على دبلوم أو ماجستير في علوم الفقه والشريعة للراغبين, فهذا مدخل من مداخل تطوير خطابنا الديني, وقد رأينا أن تاريخنا يحفل بالمفسرين والمحدثين والدعاة المجددين من غير طلبة كليات الشريعة.
أكثر من ذلك فأنني أدعو إلى تعميم تجربة سبق وأن طبقتها كلية الدعوة في جمعية الدعوة الإسلامية العالمية من خلال جمعها للتعليم المهني مع التعليم الشرعي لطلابها, بحيث كان بعض خريجي الكلية يتخرجون بدرجتي ليسانس وبكالوريس واحدة في علوم الشريعة والثانية في مهنة من المهن,»كهرباء, حداد, ميكانيك, نجاره....الخ» وهذه واحدة من شأنها أن لا تجعل الدعوة والوعظ والإرشاد مجرد وظيفة ووسيلة للارتزاق, بل تحولها إلى رسالة بعيدة عن ضغوط لقمة العيش, وهي تجديد لسيرة السلف الصالح من أئمة المذاهب وكبار الفقهاء والمجتهدين, الذين لم يكن أحد منهم يأكل من فتواه أو وعظه, فقد كان لكل منهم صنعته ومهنته تاجراً أو بناء أو غّزالاً....الخ. وهذا الإعداد المهني للوعاظ والدعاة والفقهاء من شأنه أن يحرره من ضغط الحاجة المالية والخضوع لشروط الوظيفة وخنوع الموظف.
مما تقدم كله فأنني أدعو إلى أهمية تكامل البناء العلمي والمعرفي لدى الداعية والواعظ, من خلال إعدادهم ليكونوا قدوة لغيرهم في كل شيء, وبهذا ننقذ مؤسستنا الوعظية من السقوط في براثن التخلف الذي يقود إلى التعصب والانغلاق الذي يؤسس إلى صناعة الموت, كما نرى في ممارسات التنظيمات التكفيرية, وبهذا أيضا يعود المسجد ليكون مدرسة لصناعة الحياة
الراي