كنّا في "الغويرية" نصوم ونحن صغار فقد مرّ بنا هذا الشهر كحرّ هذه الأيام .. فلا يفرق مع الفقير قدوم رمضان إلا مزيدا من الطاعة والإيمان.
كانت البيوت متلاصقة كقلوب ساكنيها ، والنوافذ تفتح على نوافذ الجيران وبلا أسوار لأنّ أسوار الأخلاق والمروءة أعلى من كل سور ... نذهبُ إلى دكانة العطّار لنحضر حوائج العصير والسوس فتجف شفاهنا وتذبل عيوننا ونحن نلاحق روائح أصنص البرتقال والبهارات والمستكة والقرفة .. ونعرّج ونحن عائدين إلى "الحسبة " حيث أكوام الخضروات وتزاحم أيادي الزبائن وتعالي أصوات الباعة وهم يشبعون الخيش بالماء ليظل البقدونس والنعنع منعشا أخضرا ...
تعجن نسوة الحيّ في البيت ثم نأخذ نحن الأطفال " فرش" العجين إلى " فرن أبو العبد " ليتم خبزه هناك .. ثم نعود وقبل الغروب فتشطف الأمهات " برندة" البيت فليس هناك عيونا تتلصّص عليها حتى لو كانت مكشوفة، وترّش الماء عليها علّه يجلب شيئا من البرودة ، ونجلس لننتظر آذان المغرب بعدما ننصبُ التلفاز في أرضها ونتابع " غوّار الطوشة" بالأسود والأبيض ومقالبه مع أبوعنتر وياسين بقوش.
كُنّا ننتظر صوت مدفع رمضان وننصتُ له كقدسيّة أخبار الثامنة ، وكان يرقد ذاك المدفع على التّلة المقابلة " للمنطقة" حيث مدرسة المدفعية على طرف معسكرات الزرقاء الشرقي .. ينطلق صوت المدفع مدويّا فنفرح ولا نرتعب فنحن أبناء العسكر ما زادنا صوته إلا مزيدا من الأمان ، ونهجم على كاسات السوس نطفئ ظمأ ذلك اليوم الشاق الطويل.
شكّلتْ " الغويرية " كأحد أحياء الزرقاء إنسجاما وتعايشا بين سكّانها من شتى الأصول والمنابت ، سكنوها عوائل العسكر من بني حسن وأبناء الشمال والجنوب وأبناء الأغوار واللاجئين الفلسطينيين ، وكان أكثر ما يجمعهم غير الفقر والحاجة هو المحبّة والبساطة وحب الوطن .