نواصل في هذا المقال الحديث عن الفرق بين المظهر والجوهر في فهم الإسلام وهو كما نعرفه، وكما تعلمناه ليس دينا كهنوتياً، وليس فيه طبقة رجال دين لها مظهر معين ولا تجوز العبادات إلا معهم ومن خلالهم، ومن ثم فإنه ليس من حق فئة من الفئات أن تحتكر الإسلام وتدعيه لنفسها، كما يحاول أن يفعل بعض خطباء المساجد ووعاظها، ومعهم بعض أعضاء الهيئات التدريسية في كليات الشريعة، الذين يعتقدون بأن الحديث بالشؤون الإسلامية حكراً عليهم، ولا يجوز لغيرهم الاقتراب منها، لذلك فإن هؤلاء يهزون أكتافهم استنكاراً ويرفعون حواجبهم دهشة عندما يستمعون إلى طبيب أو محام أو سياسي أو اقتصادي أو إعلامي، يتحدث في الشؤون الإسلامية ويشرح بعض القضايا من وجهة نظر الإسلام، أو أنه يخوض في قضايا فقهية دون أن يكون من خريجي كليات الشريعة، متناسين أن الإسلام دين للحياة بكل تشعباتها ومكوناتها، وأن أحكامه تحتاج إلى اختصاصات متنوعة غير فقه العبادات، من هنا كان الإسلام دين علم وعلماء لا دين كهنة وكهنوت, ودين جوهر لا دين مظهر.
عندي أن أصحاب هذه المدرسة في احتكار الإسلام والتركيز على مظاهره دون جوهره هم سبب الكثير من مشاكلنا، ومن تشويه صورتنا، وصورة الإسلام العظيم، لأنهم قصروه على بعض الأحكام الفقهية المتعلقة بأصول العبادات، وحبسوه مع أنفسهم في متون اجتهادات كانت بنت عصرها وزمانها، معززين من مدرسة النقل على حساب مدرسة العقل، لأنهم لا يريدون استخدام عقولهم، ومن ثم فأنهم يريدون منع غيرهم من استخدام عقله، للإجابة على الأسئلة التي يطرحها العصر على أناسه، خاصة في مجال المعاملات التي هي الجانب الأعظم والأكبر والأوسع في الإسلام باعتباره دنيا للحياة. وعندي أيضا أن هؤلاء من أسباب انتشار الفكر التكفيري المبني على الجهل، والقائم على اجتزاء النصوص والقراءات المجزؤة للإسلام، ومحاولة تضييقه بحجم ضيق افقهم.
لقد فات هؤلاء الذين يعتقدون أنهم أوصياء على الإسلام ويحاولون احتكاره. أن أعظم فقهاء هذا العصر أعني به العلامة مصطفى الزرقا، لم يكن خريج كليات الشريعة، فسيرته تقول أنه نال البكالوريا الثانية في شعبة الرياضيات والفلسفة، وتخرج من كليتي الحقوق والآداب في جامعة دمشق، ونال دبلوم الشريعة من كلية الحقوق من جامعة فؤاد «القاهرة»، ومع ذلك صار حجة وموسوعة فقهية يدرس في كليات الشريعة التي لم يكن قد تخرج منها أو درس فيها. ومثله واحد من أعظم مفسري العصر وفقهائه أعني به الشيخ محمد متولي الشعراوي الذي كان خريج كلية اللغة العربية وليس كلية الشريعة، ومثلهما لم يكن علي الطنطاوي أحد أشهر دعاة العصر خريج كلية الشريعة بل كان خريج كلية الحقوق.ومثله الداعية المشهور محمد راتب النابلسي فهو الآخر ليس خريج كلية شريعة لكنه خريج قسم اللغة العربية في جامعة دمشق ويحمل درجة الماجستير في الأداب ودرجة الدكتوراة في التربية
غير العلامة الزرقا والمفسر الشعراوي و الطنطاوي والنابلسي وأدوارهم المميزة في الفقه والتفسير والدعوة، كذلك فإن أعظم عطاءات الفكر الإسلامي في العصر الحديث، بل في سائر العصور لم تكن على أيدي خريجي كليات الشريعة وخطباء المساجد ومن عقولهم، بل إن بعض أعظم المفكرين الإسلاميين كانوا على الضفة الأخرى من نهر الأفكار والمعتقدات، بل أن منهم من كان أقرب إلى الإلحاد منه إلى الإيمان، وفي أقل الأحوال لم يكن من دارسي الفقه، لكن إعمالهم لعقولهم جعل تأثيرهم في حركة الإسلام الفكرية والفقهية أعظم بكثير من تأثير خريجي كليات الشريعة، وصار خطباء المساجد ووعاظها عالة على عطاءاتهم. وفي هذا المجال نذكر عباس محمود العقاد، ومصطفى صادق والرافعي، وفهمي هويدي، ومحمد عماره وسيد قطب وشقيقه محمد، والدكتور مصطفى محمود وغيرهم كثير من الذين اثروا الفكر الإسلامي دون إن يكونوا خريجي كليات شريعة او خطباء مساجد.
أكثر من ذلك فإن معظم حركات الإصلاح الإسلامي قادها رجال لم يكونوا من خريجي كليات الشريعة وخطباء المساجد، أمثال جمال الدين الأفغاني وحسن البنا مؤسس أكبر الحركات الإسلامية المعاصرة الذي كان خريج دار العلوم، وفي تركيا فإن فتح الله كولن لم يدخل كلية شريعة، وكذلك كان نجم الدين اربكان مهندساً، أما حسن الترابي فقد كان خريج كلية الحقوق، وهكذا هو حال الصحوات الإسلامية في سائر الشعوب الإسلامية وهذه كلها شواهد تبرهن على أن الإسلام ليس حكراً على فئة دون أخرى. وأن تعلم الإسلام ليس حكراً على كليات الشريعة، وأن فهمه لا يتم على أساس النقل فقط، فأي قارىء للحضارة الإسلامية يجد أن كل العطاءات العظيمة في هذه الحضارة تمت من خلال رجال رجحوا كفة العقل على كفة النقل، في تعاملهم مع فهم النصوص ومعطيات العصر، منطلقين من قواعد كثيره تؤكد على أن «تبدل الأحكام بتبدل الأحوال» وهي أحد أهم حكم جعل الاجتهاد مصدراً اساسياً من مصادر التشريع الإسلامي، الذي يحاول البعض إغلاقه ليقصروا الإسلام على حجم فهومهم القاصرة، وفي هذا إساءة للإسلام ما بعدها إساءة، ذلك إن الإسلام يأمر بالتفكير بكل ما في الوجود، وبطلب الحكمة من كل مكان، ويحث على التعارف بين البشر، والتعارف من أهم مصادر المعرفة والتأثير والتأثر، ولعل هذا المبدأ الإسلامي كان من أهم عوامل ازدهار الحضارة الإسلامية، عندما انفتحت على الحضارات الأخرى وترجمت عنها، وأخذت منها، مما يدفعنا إلى الدعوة إلى ضرورة إعادة النظر في مناهج كليات الشريعة. لإدخال مساقات في تاريخ الشعوب والحضارات والأديان ومقارنتها في التربية وعلم الاجتماع وعلم الاتصال والفلسفة، والفنون الإسلامية لأن ذلك مما يوسع مدارك طلابها ويؤهلهم لتعليم الناس بانفتاح على الحياة، دون أن يحملوا نظرة معادية للآخر، كما نلمس عند الكثيرين من الذين يسمون أنفسهم دعاة يريدون احتكار الإسلام لأنفسهم وعلى ضوء فهمهم القاصر الذي يحاول تقزيم الإسلام وحبسه بالمظاهر.
الراي