كتاب أل عمان .. المخفي أعظم
زيد الحموري
25-06-2016 11:27 AM
قدّم أحمد سلامة كتابه آل عمان ليطلق جدلاً واسعاً بين القراء، ومع تواصل نجاحات الكتاب التي ترد عملياً على بعض انتقادات أتت مجافية للحقيقة، فإنني أود أن أستكمل بعضاً من ملامح الصورة التي قدمها الكتاب، وأسعى لأن أجيب حول شرعية أبو رفعت لتقديم آل عمان، وهو ما فعله بكل محبة وصدق ودون أن يطرح نفسه وصياً أو ولياً على أحد، ولكنه رتل ما تيسر من ترانيم عشقه بينما حاول الآخرون أن يتزيدوا في التأويل وأن يسقطوا وعيهم الخاص، وأحياناً مصالحهم ليفسدوا على العاشق أمره وسره.
كانت ضاحية أبو نصير تجربة مهمة لاحتضان طبقة وسطى طموحة ،تستطيع أن تحمل على أكتافها جانباً من نهضة وطنية واعدة، ولهذه الضاحية توافدت المئات من الأسر من مختلف المنابت والأصول، ليكونوا نواة لتشكيل مجتمع مديني يمثل القيم التي يسعى الأردن لتعزيزها في حركته نحو الحداثة، وكان السكان الأوائل لهذه الضاحية يتشكلون أساساً من المهندسين والمعلمين والعاملين في السلك الحكومي، وأستطيع أن أجزم بعد أكثر من ثلاثة عقود بأنني كنت محظوظاً جداً بقراري الانتقال لهذه الضاحية الجديدة في ذلك الوقت، كما وأستطيع القول بارتياح أن هذه التجربة ذات الطابع المديني ستبقى دائماً أحد الفصول المهمة في تشكيل الطبقة الوسطى وطبقة التكنوقراط في الأردن.
بجواري، وبيننا جدار لا يزيد عرضه عن 15 سنتيمتر، كان يقطن أحمد سلامة
وقد علمت بأنه يشتغل في الصحافة، وفي جريدة الرأي تحديداً، ورأيته شاباً متوثباً بطموحه بعينين تشيان بكثير من الذكاء ونظرات تشتعل بالحكمة مع لمسة ساخرة من الصعب مواراتها ولكنها ضمن تركيبته الشخصية تصبح مقبولة ومستحبة أيضاً..
كيف أصبحنا أصدقاءاً؟
لا أستطيع أن أتذكر الملابسات بالتحديد، كل ما في الأمر أن تقاعلات الكيمياء الاجتماعية في عمان كان لها دور مهم، ولكنه يمكن القول بأن رغبتي في الاستزادة من حضوره المشع والبهي كانت الدافع المهم، ربما أصف نفسي بأنني أحد مريديه ،وهم كثيرون بالمناسبة، ومتيقن أنني في الصف الأول بينهم، لأن اللمسة الأبوية لأحمد سلامة تجعله فياضاً بالمحبة للآخرين ولكن ثمة درجات في المحبة تجاوزنا من الطرفين ذراها.
كان أحمد سلامة، الذي أتى من أسرة ريفية تنتمي لقرية بديا في محيط مدينة نابلس، يمثل بالفعل ذلك الشاب الذي يصر أن ينتزع الاعتراف من الجميع، ولم يكن يمتلك غير موهبة استثنائية جعلتني على امتداد سنوات صداقتنا مشدوداً لشخصيته
وموهبة سلامة يمكن وصفها بصعبة التكرار، ربما في كل جيل أو جيلين يمكن اللقاء برجل مثله، فعلى امتداد ثلاثة عقود ما زالت ناضجة وفتية، وفي كل مرة ألتقيه أعلم بأن لديه المزيد والكثير من المعارف والخبرات، وأعيد إنتاج دهشتي حيال ذلك ،وربما أعطتني هذه الدهشة طاقة ايجابية أنا الآخر لدرجة أنني اقتفيت كثيراً من رؤى أبو رفعت ومواقفه في حياتي العملية وكان له الأثر الكبير والجوهري فيما حققته لاحقاً من نجاحات مهنية.
وكثيراً ما كان دعمه المتواصل لي و آراؤه والتي تأتت من قراءة عميقة لنفسيتي وشخصيتي ما دفعتني لاتخاذ قرارات صحيحة ،وجنبتني التورط في مواقف خاطئة ،وبالمقابل فانه كان يسر لي ويستشيرني بكل ما يكتب ،ويستمع لرأيي الذي كان راجحا دوما عنده ،وكثيرا ما حصل ان شرفني بالتدخل في كتاباته قبل نشرها ومطاوعتي عن رغبة في ما كنت أراه مناسبا .
احمد كان بوابتي لعمان ومجتمعها بصفتنا الاثنين قرويين صريحين وطموحين التقيا في مدينة رائعة ومعقدة، ولكنه كان دائماً يسبقني بمسافات طويلة.. طويلة.
حين يكتب أبو رفعت عن عمان، فما يكتبه مختلف ومتجاوز للمألوف، فقصة العشق بين ابن بديا ،وعمان المدينة والحلم تستعصي على الفهم والتفسير، وأحمد يأخذ الشخص من يديه ليقدمه للمدينة ،ولأهلها بصورة مختلفة، حيث يهتدي الشخص بقلبه وبحواسه الى ما وراء الشعورية ليعرف أين يمضي وكيف، ولمن يمد يديه بثقة أو بحذر، وربما كان كتابه آل عمان بطاقة تعريفية صغيرة من كتاب كبير ما زال أحمد يختزنه في صدره.
وانا اعرف كم من الاسرار والحكايات المزلزلة التي لم يتعرض اليها احمد في كتابه ، فإن ما لم يضعه على الورق لسبب أو لآخر فإنه يستبقيه في روحه التي تجعله يطل على المدينة بنظرة المتلفت الذي لا يرتوي من حضور المعشوق .
ولكن ربما كانت العلاقة بيننا تتجاوز عمان بمعناها التاريخي، فنحن كنا شريكين في صناعة المستقبل لكل منا، فأبو رفعت هو الأب الروحي لبناتي(فرح ونور ورند وزينه)، وأنا في المقابل أعتبر نفسي مسؤولاً روحياً وفعلياً تجاه أبنائه الذين رأيتهم يكبرون بين يدي وينضجون بكبرياء وثقة كما النخيل.
فيتقدم (رفعت )الذي أخذ من شخصية والده الكثير ليضع نفسه في موقع متقدم بين أبناء جيله، شاب مخلص في عمله وصادق مع نفسه ومع الآخرين، وأتذكر يوم أن تعرض رفعت قبل سنوات لحادث سير جعل الأصدقاء المقربين يهرعون للمدينة الطبية للإطمئنان على الابن البكر لأحمد ومساندة والده الذي كان على شفى الإنهيار نفسياً وجسدياً، لا أعلم كيف وصلت إلى المدينة الطبية، ولكنني وجدت أمامي ديناً كبيراً علي أن أرد بعضاً منه لأبو رفعت الذي أحاط به الصديقين عبد الله العتوم وإحسان رمزي والباشا سميح بينو ، وثلاثتهم بالمناسبة عاطفيين للغاية، فكان علي أن أتماسك على الرغم من أن محبتي لرفعت كانت لتجعلني في وضع صعب أنا الآخر، خشيت على صديقي وصحته ووضعت كل تاريخنا بيننا وطلبت منه ان يغادر المستشفى، ذلك كان سيعطي الأطباء فرصة أن يتعاملوا مع وضع ابنه رفعت بصورة أفضل، وبقيت متفرغاً لرعاية رفعت لأعيده بعد منتصف الليل لوالده، ولكن ذلك كما قلت لم يكن إلا نزراً يسيراً من دين أحمله دائماً لأبو رفعت.
وخلافاً لرفعت، يتصف أسامة، الابن الثاني، بكثير من الهدوء الذي يخفي تحت سطحه روحاً وثابة وشوقاً لا يرتوي تجاه للمعرفة، يمضي ليتعلم في كل وقت، وعلى الرغم من معارفه التي صقلها التعليم المتميز الذي اجتهد فيه وأعتبره غاية قبل أن يكون وسيلة فإن أسامة عادة ما يتواضع لكل شخص يمتلك ولو جانباً من المعرفة والعلم ليستزيد منه، ويضع كل ما يستقبله في عملية من التأمل والتفكير تجعله دائماً صاحب الرأي والرؤيا، وهذه ميزته حتى من فترة المراهقة.
أما صديقى فراس، فأنا من بين القلة الذين لم يتسغربوا موقفه بأن ينذر لوالده إحدى كليتيه وهو يستقبل الشباب بكل وعوده وآماله، صحيح أن علاقة الأب والابن في أسرة متماسكة مثل بيت أبو رفعت تفسر كثيراً من ذلك الموقف، إلا أن الفروسية في شخصية فراس تجعل الأمر غير قابل للالتباس، فهذه روح بطولية أسهم فيها الأب أيضاً وكانت بجانبه وقت أن احتاجها مضطراً.
هل كان يمكن لمشروع أحمد سلامة أن يمضي على هذه الوتيرة من النجاح دون أن تكون أم رفعت في الخلفية، أعتقد أن ذلك كان أمراً صعب التحقق، فشخصية عنيدة ومثابرة وخلافية وأحياناً صدامية مثل أبو رفعت كانت لتحتاج دائماً لذلك المرفأ الآمن الذي مثلته مها النجار العشق الأوحد والأعمق لدى أبو رفعت.
فرجل عاش أكثر من حياة بين فكره وقلمه وتجربته السياسية، وحارب على أكثر من جبهة في الوقت ذاته، رجل كهذا لم يكن ليستكين ويبحث عن استراحات المحارب إلا مع امرأة استثنائية مثل أم رفعت التي وازنت بين عملها كمعلمة متميزة، وام عظيمة طالت امومتها بنات اخ ابو رفعت واحتضنتهم بين جناحيها كاولادها،وفوق ذلك لم تتخلف عن تلبية استحقاقات كرم أبو رفعت الذي كان بيته احد أهم صالونات عمان السياسية وما زال.
آل عمان كان كتاباً كاشف ومتسعا ومترامي الأبعاد، ولكن أبو رفعت لم ينصف نفسه في الكتاب، وترفع عن وضع نفسه في مركزه، كما أنه كان مغبناً لحق هذه العائلة الجميلة في وسط حديثه عن آل عمان، وكأنهم ليسوا بين أجملهم وأنقاهم، ولذلك فإن صداقتي كانت تحتم علي أن أستأذنه فيما تركه كعادته باعتباره مسكون بالكرم والأثرة وأن أكتبه شهادة مني لأسرة كانت، وما زالت، وستظل أسرتي الثانية، وأنا هنا لا أسعى لأن أسدد بعضاً من ديني له، فهو أكرم من ذلك، يعطي دون أن يتوقع أو ينتظر، ولكن يبقى دائماً أخاً كبيراً وهو واسط العقد بين أعمدة حياتي.