عَن «حِشْمَةُ الفقراءِ .. !» في «ذِيبَانَ» ..
محمد رفيع
25-06-2016 03:10 AM
ليسَ التعجّبُ هُنا للمَعنى. ولا لإضافةِ مَعنى الحِشمة، لأُناسٍ لا يملكونَ سِوى فَقرهم وكَرامتهم. بَلْ للزمانِ، الذي يستدعي توضيح فاصلةٍ كهذه. فالفقيرُ، الذي لا تجد عنده غيرَ العطاء، يُمارسُ كَرَمهُ، بحشمةٍ لا تليق إلّا به، فيعتذرُ لأنّه لا يملكُ أكثر..!
فهناكَ، في ذِيبَانَ، وبالتحديدِ في بيوتِ الفقراءِ المضيافةِ، التي يجرِفُها النسيانُ، يُقدّمون المَحبّةَ «.. كأنّها مِن حَواضرِ البيت».
فَفِي غَفلةٍ شاملةٍ، يَعيشونَ ويَمرضونَ ويَموتون. يَفرحون ويَحزنون بتقشّفٍ عَجيب. يتبادلون مجاملات الفرحِ، والحزن ببساطةِ الخِصبِ، وبكثافةٍ للمعاني، تُدهشُ اللغةَ المستعصية على كثيرين.
فِي ذِيبَانَ..
يَنامونَ «نوماً أبيضَ»؛ فالأرقُ، في لياليهم، «نورٌ لا يمكن إطفاؤه». إغماضٌ للعينِ لا يستدعي ظَلاماً، بل ضوءً تحت أجفانٍ مُسهّدة. أرقٌ يؤاخي السهر، ويحاكي النوم، ويؤاخي اليقظةَ، ولكنّه لا يكونه، ولا يصيره، ولا يؤاخيها، بل يبقى فيها «.. كَسِرٍّ في اليقظةِ».
ومع هذا، فإنّ لهم ذاكرات تتوغّلُ في جروحها بإستقلاليّةٍ مُعجزة. فلا تسُودُ الكآبةُ في أوقاتهم، ولا تهيمنُ المرارةُ على نفوسهم. فقط، يكتئبون حين يستطيعون، ويغصّون بالمرارةِ حين ينتبهون. يُعنّفون أجسادَهم، حين تخذلهم وتخونُهم، فلا شيءَ غيرَها عَوّلوا عليها. فتأخذ حيواتُهم، غير المديدة طبعاً، شكلَ نهايات الفصول؛ فيضٌ شديدٌ، ثمّ صَحوٌ عابرٌ، يليه بابُ عُمرٍ يُصفَقُ بهدوء..
الراشدون لا يصدّقون معجزات الفقراء البسيطة. فلُغةُ المتقشّفين متقشّفة أيضاً. لكنّها لغة مكثّفة، على نحوٍ قادرٍ على قولِ كلّ حياتهم، التي تقع بالطبيعة خارج الكلمات. ذلك أنّ غفلتهم المشتركة تجعلهم، وبلا كرهٍ أو حبٍ، لِما يُحيط بهم؛ يلبسون ويأكلون ويشربون مِن دون إنتباه. وكأنّهم يعيشون في سُحُبٍ تمشي، فتصير الحياةُ، حياتُهم، كأنّها غيبوبة..!
وفِي ذِيبَانَ..
يَحدثُ..
أنْ تَشعُرَ، فجأة، أنّهم يملأون الدنيا ضجيجاً، بمشكلاتهم، وبصراخ الجائعين منهم. ثمّ، وفي فُجَاءَةٍ أخرى، تضربهم «شَمسُ الكآبةِ»، فيصابون بلامبالاةٍ عَجيبةٍ، يليها انسحابٌ لطيفٌ، مِن كلّ الأشياء. واعتذار.
ثمّ تسمعُ أنّ أحدهم «يتمرجَحُ..»، بين حياتين، أو «بين موت محتمل وموت أكيد». وفي غفلةٍ مِن قوانين الطبيعيّة الشاملة، يرحلُ المُهشَّمُ، الساكن في غيمته أو غيبوبته، بصمت. وبلا علامات تعجّبٍ أو إستفهام، خلفَ فَقرَةِ رحيله أو غيابه أو انخطافه. ويستودعُ عافيته، وما تبقّى مِن بساطته، عند مَن «عادُوهُ..»، آخر مرّةٍ.
فِي ذِيبَانَ..
وحدها حِشمتهُم، التي هي مركز ثقل كرامتهم، ترحلُ معهم. تُرى، ألِهذا يخفُّ الكونُ، شيئاً فشيئاً، برحيلِ واحدٍ من هؤلاءِ الفقراء..؟!
______________
.. وَطُوبى لِحِشمَةِ ذِيبَانَ وأهلِها ما أرحبَها، وما أرحبَهُم.
fafieh@yahoo.com