لي صديق اسمه (عطيه) درسنا سويا في أبو نصير .. وحين أنهينا (التوجيهي) التحق بالجيش وأنا ذهبت للجامعة , وهو يخدم في الواجهة الشمالية ..وقد رفعوه إلى ملازم ثاني مؤخرا ..وفرح بهذا الترفيع , وأخبرني بأنه الان ..يستطيع أن يذهب مع والدته التي تعاني من الضغط والسكري إلى المدينة الطبية , ويدخلها في عنبر الضباط ...
نلتقي أحيانا حين يعود من الخدمة, ويحدثني قليلا عن اللاجئين ... وعن تعب الصحراء .. وأنا مقل في الأسئلة , ولكني مؤخرا سألته عن الصنف , وأعرف أن أغلبية قراء المقال لن يفهموا معنى السؤال ؟ .. المهم أجابني بأنه مؤخرا التحق بالمدرعات ...والصنف تعني القطاع الذي يخدم فيه, وهل هو هندسة , دروع لاسلكي ...إلخ .
قلقت على عطيه .. وأنا أعرف أنه يخدم على مقربة من منطقة الركبان ومنذ يوم أمس وأنا أهاتفه.. ولم يجب , وقبل كتابتي المقال رن هاتفي..كان عطية على الخط وقال لي :- (من مبارح جننتني بتلفوناتك شو بدك ..؟) .. قلت له :- أريد أن أطمئن عليك فقط ...ثم ضحكنا , وأقفلنا الخطوط .
أنت سالم يا عطية , والبلد سالم أيضا ...وأنا يا رفيق دربي إسمح لي أن أكتب لك ..في هذا اليوم , إسمح لي أن أذكرك بحديثنا حين نجلس مع رفاق المدرسة ..فحديثنا كله عن ( الصنف , والسيفيل , والمناورات ..وقرض الإسكان ) وآخر مرة ..أخبرتني بانك الان انتقلت إلى عنابر الضباط في المأكل والعلاج والمنام ...إسمحلي أن أذكرك يا عطيه ..بأن الأصدقاء يتوهون في حديثنا فهم لايعرفون ما نعرف.
إسمحلي لي يا عطية أن اذكرك بصبانا , أنت خرجت للدنيا عسكريا وأنا خرجت للدنيا بقلب نقيب في الجيش وكاتب في الوجه ..نحن بيوتنا لا يطرزها (الكرميد) ومداخلها ..ليست مزروعة بالنخل والورد ...أتذكر يا عطية (المجدرة) ..وكيف أحضرتها أمك لنا حين عدنا من امتحان الرياضيات , وأثناء تناولنا لها ..طحنت بين أسنانك (حصى) ..وكسرت سنك , أتذكر كيف ضحكنا ورضينا يومها بطحن الحصى ..وكيف كانت الأمهات تطبخ لنا العدس على عجل ..دون تنظيفه.. نحن كبرنا , ومازلنا نطحن الحصى ..
أتذكر يابن صباي وتعبي والايام الطويلة , كيف كنا نذهب مشيا على الأقدام إلى جبل الحسين , كانت ابعد منطقة في الرقي لدينا , ونطالع عيون البنات هناك ..وتظن في لحظة أن قميصك الأصفر ربما سيغوي واحدة منهن ...وحين نعود مشيا إلى أبو نصير , نقفز فوق الأسلاك الشائكة التي تحمي بساتين (الدراق) في الجبيهة ونقطف من الشجر ..ما يقضي على بعض الجوع ...أتذكر يا عطية , كيف كنا نساعد والدك , قبل الشتاء ..في رش (الزفتة) على سطح منزلكم ..حتى لا يأتيكم مطر أبو نصير ..ويتغلغل بين مسامات السطح , ويصبح (الدلف) لحظتها ..حالة تعري فينا ضيق الحال , أمام الزوار وأبناء العمومة ...
أتذكر يا عطية ..حين جئت بعد غياب ثلاثة اشهر من التحاقك بالجندية, وقد حلقوا لك الرأس , ووجهك لحرقة شمس (خو) صار أحمرا , يومها ..أخرجت لي شهادة التعيين , وأخبرتني بأنها هوية خاصة في الجنود ..ومن قبيل التعبير عن الفرح ..أهديتني بسطارك...وانا من قبيل الفرح ارتديته عاما كاملا ...
أتذكر يا عطية , حين كنت تستلم الراتب ..كان مقداره (121) دينارا ولكنها كانت تكفينا عمرا ...وكانت (الشاورما) يومها وجبة للأثرياء فقط ..ونذهب إلى جبل الحسين , ونتناولها ..وكنت سخيا تنفق دون ..تردد , وتخبرني عن وكيل القوة وعن دورة المشاة , وعن توزيعك ...وعن اهمية التحاقك بالهندسة ...
حسنا يا عطية ..أنت سالم غانم , والبلد سالمة غانمة ...أتدري لماذا أكتب لك وحدك عن دون الناس ايها الملازم الثاني وصديق طفولتي وابن حارتي ...لأني أريد أن أذكر التاريخ والزمن والحياة ..والتراب بأننا نحن الوطن ...أنا وأنت الوطن يا عطية ...ومن على شاكلتنا ...هم الوطن أيضا ...
عاش الوطن