في أواخر العام 2012، توصلت الحركة الوطنية والحراك الشعبي في المحافظات، إلى الاستنتاج التالي: الكيان في خطر.. فلنؤجّل معركة التغيير لئلا يقع الوطن في شرك الفوضى وسيطرة قوى دينية عُنفيّة.
لكن المطبخ السياسي لم يتوصل إلى فهم ذلك؛ توهّم أن الحراك الأردني مات.. وأصبح ممكنا التراجع عن المكتسبات التي تحققت بالحراك؛ فجرى طيّ ملفات الفساد، والتراجع عن التعديلات الديموقراطية المحدودة (...)، وثالثة الأثافي أن تيار المحافظين الجدد الذي تسبب بالقسم الأكبر من ملفات الفساد تحت يافطة " الخصخصة" و" جذب الاستثمارات" ، والقسم الأكبر من المديونية، عاد لكي يتحكم في القرار الاقتصادي السيادي بالقانون الذي يعلو على كل القوانين، قانون صندوق الاستثمار .. (...)
أحد أهم مكتسبات الحراك الشعبي لسنة 2011، كان "صندوق تنمية المحافظات" الذي كان معوَّلا عليه للقيام بنهضة تنموية شعبية في المحافظات، ولكنه تحوّل، فعليا، إلى صندوق لتمويل " المستثمرين" بفوائد رمزية!
البيروقراطية الوطنية الأردنية، المدنية والأمنية والعسكرية ـ التي استعادت قدرا كبيرا من حضورها ونفوذها على موجة الحراك الشعبي في المحافظات ـ جرى تجريدها من مكتسباتها أيضا، وإضعافها، وشلّها، لصالح ما سماه الأردنيون " نخب الديجتال".
وهكذا، أصبحت الدولة من دون وسيط اجتماعي ـ سياسي مع القوى الشعبية.
ملف الهوية الوطنية.. الذي كان في صميم وجدان الحراك الشعبي، وكان الجدار الذي منع الإخوان المسلمين من السيطرة على حركة الشعب، تمت الاستهانة به بصورة غير مسبوقة، وجرى تجاهل وتجريح الشعور الوطني الأردني، سياسيا وإعلاميا وثقافيا، وأفاق الأردنيون، مرة أخرى، على طريق مظلم ومستقبل غامض في ما يتصل بدولتهم وكيانهم وهويتهم.
فرض المحافظون الجدد نظاما انتخابيا ودوائر انتخابية، هدفهما تحطيم النفوذ التقليدي لبيروقراطية الدولة والعشائر، وإعادة تركيب البنية السياسية الأردنية، بما يخدم المخططات الدولية حول مستقبل الأردن.
كل ذلك كان يتفاعل في وجدان أبناء المحافظات المفقرين المهمشين الذين شعروا بأنهم تعرضوا للخديعة، بينما أدت السياسات الغامضة المضطربة في التعامل مع المخاطر الإرهابية إلى تعريض أمن البلد إلى الخطر، وارتقاء 12 شهيدا من المؤسسة العسكرية في غضون اسبوعين فقط، لدى الأردنيين شعور بأنهم سقطوا جراء الاسترخاء وعدم الحزم والازدواجية في التعامل مع الظاهرة الإرهابية.
لاحظ المراقبون، مثلا، أن تصريح وزير الإعلام حول الجريمة الإرهابية في مخابرات البقعة، بأنه " فردي ومعزول" قد أثار غضب الأردنيين على مواقع التواصل الاجتماعي، ذلك أنه عُدّ تضليلا وإهانة للعقول ودماء الشهداء.
بلدنا الآن على مفترق خطير جدا؛ فبينما تتزايد الأخطار الإرهابية التي لا يمكن صدّها من دون تحشيد وطني شعبي، تصطدم السياسات الرسمية في كل المجالات، بمصالح القوى الاجتماعية الوطنية الأردنية التي فقدت الثقة وتشعر بالخديعة واليأس ولن تتوانى عن العودة إلى ميدان الاحتجاج، بأقوى وأكثر جذرية مما حدث العام 2011.
الآن، وقبل أن نذهب ببلدنا إلى المجهول، أصبح المطلوب اتخاذ قرار سياسي جريء وحاسم بتشكيل حكومة أقطاب (مؤلفة من رؤساء الوزارات السابقين وقيادات وطنية)، بصلاحيات الولاية العامة كاملة، لإدارة الأزمات المتراكمة والمتقاطعة.
ستغدو هذه الحكومة بمثابة طاولة حوار دائمة، وتتوصل إلى صيغة توافق وطني حول الدستور وقانون الانتخابات واللامركزية وصندوق الاستثمار ومعالجة أزمة المديونية العامة وتصفية ملفات الفساد واستعادة الدور الأساسي لصندوق تنمية المحافظات الخ وتأكيد الهوية الوطنية والموقف النهائي من المشاريع الدولية، ما يسمح بتحشيد القوى الاجتماعية الشعبية في المعركة الكبرى مع الإرهاب.