أكراد سوريا .. مفارقة التاريخ وسخرية القدر
عريب الرنتاوي
21-06-2016 12:53 AM
صراع الإرادات بين تركيا وأكراد سوريا يزداد احتداماً مع كل إنجاز ميداني تحققه وحدات الحماية وقوات سوريا الديمقراطية مدعومة بغطاء سياسي وعسكري من أهم مراكز القوة الدولية، من موسكو إلى واشنطن، ومن باريس مروراً بلندن وبرلين. لم تنفع تهديدات السيد رجب طيب أردوغان في الحد من اندفاعة الكرد، ولم تفلح خطوطه الحمراء في منع انتقالهم من ضفة الفرات الشرقية إلى ضفته الغربية ... وها هي معركة منبج، تعطي الحركة الكردية مزيداً من “الشرعية” وتحيلها إلى لاعب رئيس على الأرض، من العبث الاستمرار بتغييبه عن موائد التفاوض، استجابة لرغبة تركية لا يؤيدها أحد.
وعلى وقع الاختراقات التي تحققها “الوحدات” على جبهة منبج، ترتفع وتيرة التفاؤل الكردي بفرص قيام “إقليم” خاص بهم، على غرار الإقليم في شمال العراق، وهم أعلنوا ذلك صراحة، وشرعوا في حشد الدهم والتأييد، لخطواتهم الرسمية المتوقعة في غضون أشهر قلائل عندما يجري الانتهاء من وضع دستور للإقليم، وربما عرضه على استفتاء عام. الأكراد لا يكفون عن إطلاق رسائل الاطمئنان للسوريين بمكوناتهم الأخرى، ودول الجوار العربي والإقليمي والمجتمع الدولي، يؤكدن من خلالها مراراً وتكراراً أنهم جزء من سوريا، ولا ينتوون الانفصال عنها ... لكن ممارسات الحركة الكردية على الأرض، وطابع “الاستعجال” و”التفرد” الذي يسم مواقفها وخطواتها، يجعل مهمتها صعبة، إذ بات جلياً للعيان، أن منسوب القلق والتحسب يرتفع لدى مختلف الأطراف، من نوايا “انفصالية” خبيئة، ومن نزعات لإعادة تشكيل ميزان القوى الديموغرافي في مناطق سيطرة وحدات الحماية الكردية. الأطراف التي تبدي تخوفاً وحذرا من “خروج المارد الكردي” من قمقمه السوري، عديدة، صحيح أن تركيا هي أبرز هذه الأطراف وأكثرها انفعالاً مما جري ويجري، لكن الصحيح كذلك، أن تركيا ليست وحدها في هذا الموقع وعلى هذا الموقف ... فالنظام السوري بات يخشى بدوره،محاولات “التسمين” المبالغ بها للدور الكردي، سياسياً وعسكرياً، وبدعم من خصومه وحلفائه على حد سواء ... إيران تخشى كذلك مفاعيل “مبدأ الدومينو”، وما يمكن أن يترتب عليه من انتقال عدوى “الانفصال” و”الأقلمة” إلى داخلها... حتى المعارضات السورية على اختلاف مرجعياتها وارتباطاتها، باتت تنظر بعين القلق لتطورات المشهد الكردي في شمال سوريا وعلى الرغم من كون الأكراد يواجهون رفضاً وتحفظاً واسعين لمشروع “الأقلمة” الممهد لـ “الانفصال”، إلا أن تفاقم حدة الخلافات بين خصومهم ووصولها حد الصدام الدامي، يجعلهم أكثر اطمئنانا على مستقبل مشروعهم “القومي” ...إذ يبدو ان المستبعد تماماً أن توحد “المسألة الكردية” كل من حكومات دمشق وأنقرة وطهران وتدفعها للتنسيق فيما بينها، أقله في المدى المرئي. ثم، أن لأكراد سوريا تجربة عميقة وضاربة في جذورها، يمكن أن يتعلموا دروسها من أشقائهم في العراق، الذين عرفوا تماماً كيف يوظفون صراعات الأدوار والمراكز الإقليمية وحروب المذاهب والطوائف في بلدهم، لصالح تعزيز “الإقليم” وتكريس كيانيته المستقلة والوصول به إلى “حافة الدولة” التي لا ينقصها شيء سوى الإعلان رسمياً عن قيامها ... اكراد سوريا، تعلموا الدرس مبكراً وعرفوا كيف ينتزعون الاعتراف بالمزيد من حقوقهم، ومن قبل جميع الأطراف بلا استثناء، وما زالت هذه العملية جارية على قدم وساق.
بعد قرابة المائة عام على اتفاقات سايكس بيكو ومعاهدات سيفر ولوزان وسان ريمو، يبدو أن التاريخ بصدد إعادة الاعتبار للأمة الكردية من جديد، بدءاً بجغرافيا هذه الأمة التي تتوزعها دول أربع فاعلة في الإقليم، اثنتان منها في وضعية “الرجل المريض” كسوريا والعراق، والأخريان، لديهما ما يكفي من نقاط الضعف و”الخاصرات الرخوة” بصورة تعزز طموح الكرد في استعادة حلمهم التاريخي، عن طريق “الأقلمة” المفضية إلى الاستقلال وتقرير المصير. هي مفارقة تاريخية، يمكن وصفها بسخرية القدر... داعمو الحركة الكردية، لا يتفقون على شيء تقريباً سوى دعم هذه الحركة ... وخصوم الحركة الكردية، لا يتفقون على شيء تقريباً، سوى القلق من نواياها وأحلامها المستقبلية.
الدستور