أذكره رمضان كان يمرُّ علينا في الصيف ونحن نزور قريتنا " المسرّة " قرب العالوك ، كُنّا أطفالا نأوي إلى بيت جدي ، كان بيتا من طيب وبيدرا من كرم .. وكانت الناس أكثر قناعة وبساطة رغم ضيق اليد ، ورغم طول ساعات الصيام ولهيب نهاره ..
يتسّحر الرجال ثم يمضون نحو الموارس ليحصدوها يعاونون بعضهم البعض ، وعندما تنتصف الشمس في حزيران تكون الحلوق قد جفتْ ، والعرق قد سال وشربته الأرض الظمأى ، يبللّون أشمغتهم بالماء عله يبرّد شيئا عليهم ، وقد بخلتْ السماء من أي غيمة تظللُّ الحصادين وهم يسبّحون ويهللّون ويحتسبون أجرهم على الله ..!!
بعد العصر يمرّون على البساتين في "الحوض"
، يتفقدون أبيات الباميا والفقوس والبندورة والبطيخ الذي كان ينمو بعلا وعلى رائحة الندى .. يجمعون ما رزقوا منها ليضيفوا شيئا إلى موائد الإفطار الكريمة والطيبة بأنفاسهم قبل طعامهم ، وما يزيد من الباميا يُجمع في قلائد تعلّق على الحيطان ، أما البندورة فتتجزأ أنصافا وتفرد على سطوح البيوت لينشّف وليجفف للشتاء .
كانت نساء البيت يعبئن " الجرار" بالماء ويشبعن الخيش الذي يلبسوه للفخار برذاذ الماء أيضا ، ليظلّ باردا رقراقا صافيا مثلجا، فلا يطفئ عطش الصيف إلا ماء مثله يُصبُّ في الحلوق الجافة ، فقلّة من الناس كانت تشتري قوالب الثلج التي يتم إحضارها من المدينة وتُحملُ في باص القرية الوحيد وهو عائد مساء .
وعندما ينضجُ العنب المعلّق كقطوف دانية والمخبئة عن الطيور ، من المعرّشات المنتصبة في حوش البيت ، كان يُجمع هو وحبّات التين الضاجة بالإستواء واللين ليُزّين بهنّ موائد السحور والفطور .
وعند المغرب ولمّا تقترب ساعة الآذان تتبادل الجارات صحونا من طعام إفطارهم دلالة محبة ورضى ، وخشية أن طفلا تسرّبت إليه رائحة طهي لم تقم في بيت أهله .
هكذا كان يمرّ رمضان في أجواء القيظ ، كان أهلنا أكثر صبرا وأكثر محبّة وأكثر عملا وأكثر إستمتاعا بالعبادة .. مقتنعون راضيون وكانوا أكثر سعادة رغم شظف العيش وصعوبة تلقيط الرزق .