الإعلام في بيت الطاعة .. !!
حسين الرواشدة
15-06-2016 02:00 AM
ما لم يمثل الاعلام الضمير العام ويعبّر بصدق عن قضايا الناس وهمومهم، ويخرج من سطوة الخوف وتناقض المرجعيات والنفاق المجاني، فانه سيبقى مجرد “ واجهات “ وديكورات معلبة، لا اثر لها بالواقع، ولا امل فيها بحماية امن المجتمع ولا بحمل رسالة الدولة .
وظيفة الاعلام لا تقتصر على نقل الاخبار بموضوعية وامانة، فهذا من صميم واجبه، ولا على توجيه الراي العام باتجاه قبول المقررات الرسمية، كما انها تتناقض اساسا مع محاولة “ تزيين “ المشهد العام والترويج للسياسات التي تفتقد الى الشرعية الشعبية، انها تتجاوز ذلك الى دائرتين اساسيتين : اولاهما ان الاعلام يجب ان يكون مرآة المجتمع التي تعكس كل ما يفكر به وما يحتاجه ويعاني منه، كما انه عين هذا المجتمع، الناقدة والبصيرة، واذنه الامينة، ويده التي تشير الى الخطأ، وتحاول ان تصلحه، اما الدائرة الثانية فهي ان الاعلام حين يكون في (بيت الطاعة)، فانه لا يفقد مصداقيته فقط وانما يعجز حينها عن تبني رسالة الدولة، وقد يسيء اليها، ويكون عبئا على القيم والرسائل التي تسعى الى ايصالها للناس واقناعهم بها .
تحتاج الدولة الى اعلام قوي وامين للدفاع حدودها السياسية والفكرية والاجتماعية، ومجالها العام، مثلما تحتاج الى جنود محترفين ومخلصين للدفاع عن حدودها ومجالها الجغرافي والامني، واذا كان مصطلح “العيون الساهرة “ ينطبق تماما على الوظيفة الامنية، فان مصطلح “الضمائر اليقظة “ والواعية ينطبق ايضا على الوظيفة الاعلامية، فأمانة الكلمة مثل امانة “البندقية” ، ما دام ان قيم الدولة المعاصرة ومصالحها هي الحاضرة في المشهد، وما دام ان “ الجنود “ على اختلاف اسلحتهم حريصون على القيام بواجبهم الوطني والاخلاقي، سواء بمنطق الالتزام التام او بمنطق النقد والتنبيه .
الاعلام هنا ليس عصا الحكومات او جزرتها التي تستخدمها متى تشاء، وانما هو ضمير الدولة والمجتمع، واداؤه يفترض ان يقاس على المسطرة “ المهنية “ لا على المسطرة السياسية، كما ان دوره ليس تعبويا وانما دور تنويري، وبالتالي فان الاعلامي ليس مجرد “ بوق “ للهتاف ولا ممثلا لطرف رسمي او خاص، بقدر ما هو باحث عن الحقيقة، وصوت للناس، وممثل للهم العام .
لا يمكن بالطبع للاعلام ان يتحرك في الاتجاه الصحيح، الا اذا توفرت له بيئة سياسية واجتماعية تمنحه الحركة وتمكنه من الارتقاء بخطابه الى مستوى ارادة الناس وطموحاتهم، وبهذا المعنى فان اصلاح الاعلام بمعزل عن اصلاح السياسة يبدو في غاية الصعوبة، كما ان تحميل الاعلام مسؤولية الخلل لوحده، دون النظر الى حالة المجتمع، فيه ظلم كبير للاعلام وللاعلاميين.
اسوق هذه المقدمة الطويلة لكي اتوقف امام ملاحظتين تتعلقان بتجربة عشتها في الصحافة واخرى في الاذاعة وتجربة ثالثة قادمة في الادارة المتعلقة بالاعلام الرسمي، الملاحظة الاولى تتعلق بحاجتنا الى ممارسة “النقد الذاتي” لتجربتنا الاعلامية وهي ممارسة يفترض ان تكون “شجاعة” وان تتوجه الى اطار “الاصلاح” الجدّي الذي حضرت فيه السياسة والاقتصاد وغاب عنه –للأسف- الاعلام، وهذا النقد الذاتي على اهميته لا يكفي فهو يحتاج الى مقررات واجراءات جريئة لانه لا يمكن اخراج اعلامنا من حالته ( الصعبة ) الا من خلال اجراء عمليات جراحية دقيقة، تتعلق بالمضامين التي يقدمها اعلامنا و بموقف الحكومات منه، و “بالفاعلين “ فيه والعاملين ايضا.
اما الملاحظة الثانية فهي ان تجربتنا الاعلامية على ما حققته من انجازات ظلت رهينة لمزاجيات ادارية متقلبة، وبالتالي فان اصلاح هذه التجربة يستدعي “اصلاح الادارة” الاعلامية ، من خلال تغيير الوجوة التي لم تثبت صلاحيتها الاعلامية واستبدالها باشخاص يتمتعون بالكفاءة وبثقة الناس ايضا.
على هامش هاتين الملاحظتين يمكن ان اشير الى “الزهد” الذي يمارسه الاعلام حين يتحدث عن علاقته بالاصلاح والتغيير، فالاعلاميون الذين يتحدثون عن الاصلاح السياسي او الاقتصادي مهما اختلفت مواقفهم منه غالبا ما ينكفئون على انفسهم اذا ما تعلق الامر بالحديث عن اصلاح “ بيتهم الاعلامي” وحتى حين يطرح مثل هذا الموضوع للنقاش فان سهام النقد غالبا ما تتوجه نحو الحكومات باعتبارها “الخصم” او المسؤول عن الاصلاح وهذا النقد يبدو وجيها، لكن من الاولى ان يسأل الاعلاميون انفسهم عن “دورهم” ايضا في اصلاح بيتهم وعن حدود الحرية التي ارتضوها لممارسة عملهم وعن حضورهم “الواجب” في مجتمعات استطاعت ان تتجاوز عقد الخوف وان تسقط “منظومة” من الافكار التي قيدتها فيما مضى، بينما بقي “الاعلامي” قانعا يرصد ما يحدث والتعليق عليه دون ان يتفاعل معه او يشارك فيه.
الدستور