د. عصام سليمان الموسى - هناك حيث تمتد بادية الشام في المدى عميقة لامتناهية تحت سماء زرقاء صافية في النهار، مزدانة بنجوم متلألئة في ليال الصيف الندية، وعيت على الحياة في المفرق. ولدت فيها ذات ليلة ماطرة في أواخر شهر تشرين الثاني عام 1944، وشببت فيها، ودرست في مدارسها حتى نهاية الصف الثاني إعدادي. أغوص وقد بلغت الآن الثانية والسبعين في ذكريات الطفولة، انفض عنها غبار النسيان، ليعرف ابناء الزمن الحاضر كيف كنا عندئذ...
مدرسة المفرق الحكومية
في عام 1956 انتقلت الى مدرسة المفرق الحكومية، بعد امتحان قبول خضعنا له نحن القادمون من مدرسة اللاتين. كانت المدرسة من العمائر القليلة التي بنيت من الحجر النظيف، ودرست فيها صفين: الأول إعدادي والثاني إعدادي. لم يكن حتى ذلك التاريخ في المفرق مدرسة ثانوية مكتملة، وكان طلبة الصفوف العليا يذهبون الى اربد لمتابعة الدراسة العليا وتقديم (المترك). درّسنا اللغة العربية في الأول الإعدادي شيخ جليل صديق لوالدي كان في ذات الوقت إمام مسجد المفرق. سأل مرة سؤالا فرفعت إصبعي وأجبته قائلا: يا «أبونا»، ظنا مني ان جميع رجال الدين هم «آباء روحيون» للناس... فضحك بسعة صدر وقال، «أبونا في مدرسة اللاتين هناك”، هنا قل: «سيدي الشيخ».
وأذكر من الأساتذة عادل عوجان وفرحان حداد والأستاذ جودت الذي درسنا مادة التجارة التي كنت لا أستسيغها. وكان معلم اللغة العربية في الثاني إعدادي أستاذ أنيق (اسمه الثاني الحسن؟) روى لنا كيف ان بيتا من الشعر كان السبب في مقتل أمير شعراء العرب عبر كل العصور، المتنبي، حين أراد الهرب من معركة خاسرة فقال له خادمه: أتهرب وأنت القائل:
الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم
بقيت بعدها آسفا لأنني لم أسأل ذلك الأستاذ كيف عرف ان خادم المتنبي قال تلك المقولة، وماذا حل بذلك الخادم بعد المعركة؟؟
في المدرسة كان مطلوبا من كل طالب ان يلقي خطبة في طابور الصباح. أعددت خطبة ووافق عيها الأستاذ عادل عوجان، وحفظتها عن ظهر قلب، وألقيتها في اليوم المقرر. ومن أصدقاء الدراسة اذكر علي شهاب وعبد الغني وعدنان الطحان وتوفيق النمري وجدعان .
الكشافة
في الثاني إعدادي، التحقت بفرقة الكشافة وكان مدربنا الأستاذ عادل عوجان. ابتاع لي والدي حطة وعقالا وخيطت لي الوالدة بدلة من الكاكي وكان البنطال قصيرا..وكانت ربطة العنق تربط بخيط ثخين نهايته صفارة معدنية توضع بجيب القميص. كنا نتدرب مرة في الأسبوع بعد الدوام على المشي الكشفي بانضباط متناه وبفخر ونحن نرتدي تلك البزة الجميلة. كان التدريب يبدأ ب»معتدل مارش» أو «الى الأمام سر»، فنسير مرفوعي الهامة أزواجا بحسب الطول وراء قائد الفرقة الذي يرفع العلم الأردني بزهو وكبرياء.. كانت فرقتنا صغيرة ربما لا يزيد عدد إفرادها عن 30 طالبا من الصفوف العليا. بعد ان نبدأ السير المعتدل يأخذ المعلم بإصدار إيقاع بصفارته نتحرك بموجبه بانتظام الى ان يصدر أمرا نستدير بموجبه الى جهة أخرى. في الأيام الماطرة كنا نبقى داخل المدرسة وننشد أناشيد وطنية: «موطني موطني..ايها الشباب لنا الغد..عاش المليك..بلاد العرب أوطاني»..كان الحماس يمزق الحناجر وهي تشدو بكلمات فيها عبق التاريخ والزهو بمكانة العرب ومجدنا التليد. وبعد العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، وبعد طرد الانجليز من الأردن، اذكر ان جنديا من الجيش العربي جاء يدربنا بعد الدوام المدرسي على حمل السلاح.
عيد الجيش في خو
يوم عيد الجيش ذهب فريقنا الكشفي بالباص الى موقع (خو) العسكري حيث تجمعت الفرق الكشفية في المملكة هناك. جلسنا على مدرج إسمنتي. ومع ان الصور في الذاكرة باهتة إلا أني ما زلت أذكر عرض القوات المسلحة: تأتي في المقدمة فرقة البادية بثيابها المزركشة على الجمال، وتتبعها فرقة الخيالة.. وجنود مشاة.. ومصفحات ودبابات ومدافع.. تمر أمام المنصة الرئيسة يجلس فيها القادة بوقار وبهاء .. كنا نشعر بالاعتزاز ونحن نشاهد العرض العسكري على إيقاع موسيقات القوات المسلحة ونصفق بأيدينا. بعد الانتهاء كنا نصطف بانتظام ونتوجه الى الباص الذي يقلنا الى المفرق.
في مناسبة أخرى خيمت فرقتنا مع الفرق الكشفية الأخرى في الملعب البلدي في اربد..نصبنا خيمتنا ونمنا ليلة أعقبها عرض كشفي ووزعت الجوائز على أحسن الفرق..تمتعنا بليلة سمر مسلية، وعزف البعض ودبك الآخرون، وقال آخرون نكات أضحكتنا.. نمت الليلة الأولى في المخيم، اما الليلة الثانية فقضيتها في منزل أولاد عمنا في اربد اذ حضر ابنهم زياد وأخوه جورج، أبناء ناجي الخوري، وأخذوني الى منزلهم، فاستأذنت وذهبت معهم، وهناك التقيت بجدهم خال والدي الخوري يوسف الناصر- خوري الرفيد- وزوجته الخورية وبقية افراد الأسرة زكي وزكية وعفاف، وكانوا يسكنون جميعا في منزل شيد من الحجارة البيضاء وفيه صالون دائري جميل.
مكتبة محمد السكر
في بداية كل عام دراسي، كنت اذهب مع والدي الى مكتبة محمد السكر لابتياع القرطاسية والكتب. كان محمد السكر صديق والدي، ويبتاع الكتب لنا وله من مكتبته. وكنت في أيام كثيرة أذهب لمكتبته لشراء جريدة من يوميات ذلك الزمن: الأردن أو فلسطين او الجهاد أو الدفاع ، وأذكر ان ثمنها كان قرشا ونصف.
وكان والدي يكتب في مجلة الأديب اللبنانية والرائد العربي السورية (صدرت في حلب) والقلم الجديد (لعيسى الناعوري) مقالات او قصص قصيرة، وكانت ترسل له المجلات بالبريد. وكان ساعي البريد يدور على المنازل ويسلم الرسائل لأصحابها. وكنت اذهب أحيانا لإيداع الرسائل، وارى عامل الهاتف جالسا وراء جهاز يستقبل المكالمات من المشتركين فيسحب (فيشا) يصل هذا المشترك بذاك. واذكر ان الرسالة كانت تكلف قرشا ونصف للطابع اشتريه من الموظف ثم الصقه على المغلف ثم أودعه صندوق البريد.
المظاهرات
كانت الخمسينيات سنوات مضطربة، فقد اعتقل والدي مرتين. وكنا كطلبة نشارك في مظاهرات، تبدأ من مدرسة الذكور الحكومية، فيخرج الطلبة من المدرسة ، ويذهبون الى مدرسة الطالبات ليشاركن أيضا، ويواصل الجميع السير حتى يصلوا مدرسة اللاتين، فيخرجوننا ونسير معا نردد الهتافات العالية مثل (يسقط الاستعمار)، وحين تحدثوا عن الفراغ بالشرق الأوسط هتف المتظاهرون ان (الفراغ في رأس الإستعمار)، وثم نسير باتجاه القائمقامية او القاعدة الانجليزية. ومرة أطلقت قوات البادية النار فوق رؤوس المتظاهرين في الهواء، فانفرط عقد المظاهرة بسرعة. وكانت المدارس تغلق أبوابها لأيام، ويعقب ذلك اعتقالات.
ذكريات الاعتقال
اعتقل والدي مرتين: عام 1955 وعام 1956 في الأحداث السياسية في ذينك العامين. كنا كأسرة نعيش وقتها ظروفا عصيبة. وأذكر ان خال والدي، المرحوم الخوري يوسف الناصر، خوري قرية الرفيد -شمال اربد، حضر الى المفرق خصيصا. وأوكلت إلي مهمة جمع التواقيع على عريضة أرسلناها ببرقية للمسئولين في عمان نطالب إطلاق سراح والدي. وكنت أدور على الدراجة وأجمع التواقيع. كان والدي شخصية معروفة ولا أذكر ان أحدا رفض التوقيع. وكان للخوري يوسف دورا مهما في إطلاق سراح والدي في المرة الثانية. كان الخوري يوسف شخصية فذة وكان من وجهاء قرية الرفيد. وقد حمل نسخة من كتاب والدي (الحسين بن علي والثورة العربية الكبرى) الذي كان وقتها في المطبعة، وقدمه الى مرافق الملك وقال له كيف تعتقلون من يكتب عن الهاشميين؟ وصدر بعدها أمر بإطلاق سراحه. ويشرح والدي في مذكراته (ثمانون: رحلة الأيام والأعوام) كيف ان احد المسؤولين (الفاسدين) كان وراء الاعتقال بإلصاق تهم زائفة. ويذكر أيضا كيف أن أحدهم حذره من انه سيعتقل وعرض عليه تدبير أمر هروبه الى سوريا في سيارات الجيش السوري الذي كان مرابطا في المفرق وقتها. رفض والدي الهرب من الأردن مع ان عددا من أصدقائه فعل، وقال للرجل انه بريء ولم يأت ذنبا يستحق ان يعتقل بسببه. وبقي في منزله حتى جاء الجنود واعتقلوه منتصف الليل. ولا أنسى رحلاتي مع الوالدة والجدة لزيارة والدي في المعتقل في الزرقاء. في المرة الثانية أُرسل والدي في رحلة شاقة للجفر، وصفها في مذكراته، فكانت زيارته مستحيلة. وفي مذكراته يروي والدنا تفاصيل اعتقاله وأسبابها، وتكشف التجربة عن شجاعته حين رفض ان يلجأ لسوريا مع ان الظروف تهيأت له، فجلس في منزله مؤمنا ببراءته ينتظر الشرطة حتى جاءت فأخذته منتصف الليل. كنا الأطفال نغط في سبات عميق ولم نعرف بالأمر إلا صبيحة اليوم التالي. وحين تم أُطلاق سراح والدي، وجاءنا من الجفر، كان قد أطلق لحيته. وفي صبيحة اليوم التالي أرسلني لإحضار المصور الذي التقط صورة له .
الدراجة
في طفولتي كانت لي دراجة بثلاث عجلات. وبعد ان كبرت قليلا صرت استأجر دراجة هوائية (بسكليت) صغيرة الحجم من محل يؤجرها في السوق. كنت استأجر الدراجة هذه لمدة ربع ساعة مقابل قرش واحد أدفعه لصاحبها، فاستلم الدراجة، وأقودها في الشوارع الخالية من السيارات تقريبا.
وفي أوائل الخمسينيات ابتاع والدي دراجة هوائية ماركة (فيلبس). وكان ذلك بعد ان انتهى عمله في شركة نفط العراق وبدأ عملا جديدا في القاعدة الجوية عند الانجليز، في قسم الأرصاد الجوية، وكان يتناوب العمل مع زميليه منولي عويس وشوكت مرجي. ولأن موقع الأرصاد في الجهة الخلفية من المطار ويبعد حوالي الكيلومترين عن منزلنا، ابتاع والدي الدراجة وصار يركبها في الذهاب والإياب. كانت ارض المفرق ترابية ومستوية وصلبة فتسير عليها الدراجة بسهولة. وصرت أقوم بتجهيز الدراجة بأن أخرجها من غرفة المستودع الى الساحة أمام المنزل، واركبها وأدور بها في الساحة الواسعة أمام منزلنا. ولأن الدراجة كانت عالية (نمرة 18)، كنت أقودها من الجنب واقفا دون ان اجلس على المقعد. لكن بعد فترة حين كبرت صرت استطيع ركوبها بحسب الأصول. وكنت اُجلس إخوتي الصغار أمامي، يوسف ومروان، فيجلسون على جنب، وأقود بهم. وبقيت هذه الدراجة عندنا حتى بعد ان رحلنا الى عمان، حتى نهاية الخمسينات.
جمع الطوابع
بدأتُ في الخمسينيات هواية جمع الطوابع، وتعززت الهواية حين أحضر والدي لي من بريطانيا حين زارها أول مرة عام 1957 ألبوما لا زلت أحتفظ به. وامتاز الألبوم بان طبع على رأس كل صفحة فيه اسم دولة من دول العالم حينئذ، وأظن ان عددها كان 70 دولة. وكنت ابتاع بعض الطوابع من تجار الطوابع او الأصدقاء، او نتبادلها، لأضعها في ألبومي. وأُعجبت بطوابع صارت تصدر على شكل مثلث (لإمارة موناكو تحديدا) فاشتريت بعضها. واستمرت هذه الهواية حتى نهاية الخمسينيات. وما زلت احتفظ بهذه المجموعة، وبينها طابع الزفاف الملكي للملك الحسين والملكة دينا. وجمعت طوابع لخمسين دولة او أكثر في تلك الفترة، وكان ذلك يعد انجازا كبيرا اتباهى به أمام أصدقائي الذين كنت أتنافس معهم في الهواية.
مصروف اليوم ..
كنا نشتري بمصروف اليوم قطعة هريسة او حبة اسكيمو من بائع الدندرمة، او كأس السحلب، بتعريفة، وكنا نجلس وراء صندوق العجب نتفرج على الزير سالم، وعنترة بقرش.
وفي الأعياد كانت تنصب المراجيح الخشبية للاحتفال بالمناسبة السعيدة على حدود المدينة فيتمرجح الأطفال عليها تحت أنظار أهاليهم وهم يرتدون الملابس الجديدة مقابل قرش.
سينما الشرق
كان اول فلم حضرته عرض في سينما في شركة نفط العراق، وكان لفريد الأطرش، وذهبت مع والدتي بالسيارة مع آخرين، وشاهدناه في دار عرض كبيرة كانت داخل الشركة.
بعد ذلك بنيت في المفرق دار للسينما، كان اسمها «سينما الشرق». وفيها شاهدت أولى الأفلام، وكان سعر التذكرة ثلاثة قروش للدرجة الثانية وخمسة للدرجة الأولى. وعُرض مرة فلم عن السيد المسيح حضرته جدتي ووالدتي. وكنت أحب أفلام طرزان والكاوبوي، وأذكر فيلما مرعبا من الخيال العلمي عن عنكبوت ضخم هاجم احدى المدن. كما كانت تعرض أفلام عربية، ولا أزال اذكر منها ملصق لفلم (الوسادة الخالية). وحضرت فيلم (موعد غرام) لفاتن حمامة وعبد الحليم حافظ، ومن يومها أحببت أغانيه.
وعادة كان يعرض أمام السينما ملصقات للأفلام تبين لقطات من الفلم يتوقف الرواد أمامها ويتأملونها قبل ان يقرروا شراء تذكرة لدخول الدار لمشاهدة الفلم. وفي وقت لاحق بنيت سينما ثانية في وسط السوق التجاري. وتملكتني هواية جديدة اذ صرت اشتري قطعا من الأفلام من محمود السوري الذي كان يعمل في دور السينما، ومن قطعها كنت أعمل سينما في المنزل. وكانت العملية تتم على النحو التالي: أضع مرآة عند الساعة العاشرة صباحا حينما تكون الشمس عالية عند باب الغرفة فتعكس المرآة الشمس الى الحائط المقابل داخل الغرفة. وبعد ذلك أجلس بقرب الحائط حيث تتركز الشمس المعكوسة من المرآة، وامسك بمكبر زجاجي اشتريته بعشرة قروش من صديق، وأضع شريحة الفيلم وراءه على بعد سنتيمترات ، فتظهر على الحائط صورة الأبطال الذين أكون شاهدتهم في السينما. وكان إخوتي الصغار يتحلقون حولي يشاهدون المناظر بإعجاب.
ولا أنسى فلما عرض في مدرسة اللاتين، وكنا بالصف السادس ابتدائي، وكان حول قضايا تنموية، وربما كان مصدره (النقطة الرابعة)- وهي مؤسسة أمريكية كانت تقدم دعما ماديا للحكومة. وواضح ان الفلم اشتمل على دعاية من نوع ما لأمريكا. واذكر ان بعضنا جلس على الأرض لامتلاء القاعة. ولفت نظري إثناء عرض الفلم ان رمى احد الطلبة حجرا على الشاشة. وفي اليوم الثاني سأل الأستاذ نسيم الطوال، مدرسنا، قائلا بصوت درامي: من رمى الحجر على الشاشة أمس؟ فرفع أحدهم إصبعه، فطلب الأستاذ ان نصفق له. صفقنا دون ان نفهم شيئا، حتى كبرنا، واكتشفت ان الأستاذ نسيم كان شيوعيا، بل قيل انه صار من قادة الحزب الشيوعي في الأردن. وكان طبيعيا ان يكون مناوئا للامبريالية الرأسمالية.
ذكريات ضبابية!
هناك ذكريات ضبابية غير واضحة التفاصيل في ذهني. أذكر منها وجود قوات عراقية في المفرق عام 1948. كما أذكر مناسبة رفعت فيها الأعلام السوداء على المنازل، ربما بعد اغتيال المغفور له الملك عبد الله الأول. وأذكر تواجد القوات السورية في المفرق، ربما بعد العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، وشاهدت جنودهم يتدربون حول المدرسة حاملين بنادقهم على حدود المدينة من الجهة الشمالية الغربية حيث كان معسكرهم، وسكن بعض ضباطهم في بيوت أستأجروها.
الرحيل
بعد ان عمل والدي في إذاعة عمان عام 1957، تقرر ان نرحل إلى العاصمة. جاءت سيارة شحن وضعنا بها أثاث منزلنا، وساعد في الرحيل ابن العمة نايف والخال بشارة. كان ذلك بمنتصف تموز 1957. استأجر والدي منزلا قريبا من اذاعة جبل الحسين وكان جارنا في الطابق فوقنا صديق والدنا عيسى الناعوري واسرته الكريمة. وتأجر منزلنا إلى أسرة سريانية ابتاعته في النهاية مع الأرض. وحين زرت المفرق قبل سنوات ذهبت الى منزلنا القديم واستقبلني ابن الرجل الذي ابتاع منزلنا وأدخلني الى غرفة الصالون التي كانت لا تزال كما اشتروها، وأضاف ان ساعة الكهرباء في منزله لا تزال تحمل اسم والدي.
سقا الله تلك الأيام
ودعت أصحابي والذكرىات الجميلة في المفرق. وكنت بين فينة وأخرى اذهب لزيارة بعضهم. التحق بعضهم بالرفيق الأعلى، رحمهم الله، وبقيت ذكريات طيبة أشاطر بعضها ممن التقيه من أولئك الأصدقاء، فنستعيد طرفا عزيزة على قلوبنا، ونضحك ونحن نتذكر أحداث ذلك الزمان، ونترحم على زملاء لنا، وندعو بطول العمر لمن بقي واقفا. آخر من التقيت من هؤلاء الزملاء الشاعر عيسى بطارسة المقيم في أمريكا، والذي يحضر لزيارة الأردن بين فترة وأخرى، كما التقيت بفرانكو سليمان قبل سنوات في السعودية وما زلنا نلتقي أحيانا، والتقيت بنصري السروجي المقيم حاليا في بريطانيا حين حضر الى عمان. والتقيت اكثر من مرة مع الفنانة سميرة خوري التي كانت اسرتها تقيم بقرب منزلنا في المفرق وتعرفت على شقيقها سليمان في السعودية وزوجته الفاضلة، وشقيقهم سهيل خوري المذيع الذي علمت ابنته في جامعة اليرموك في قسم الصحافة، واستمع لبرنامجه الصباحي عن أقوال الصحف كل يوم. وحاليا التقي خليل حداد الصديق العزيز، ووصلني مؤخرا سلام من مراسل إذاعة عمان في المفرق غازي حداد صديق الطفولة. وزارني في جامعة اليرموك ابن صديق والدي محمد السكر الذي درس في اليرموك أيضا. وآخر من التقيت من المفرق الأب بولص حداد والمهندس جورج حداد، وكان ذلك حين اجتمع مسيحيو الشمال بدعوة من الأب نبيل حداد في جمعية الدبابنة غرب عمان لاستقبال رئيس الوزراء الدكتور عبدالله النسور، الذي جاء معايدا بعيد الميلاد المجيد، والقى كلمة معبرة، ويومها قدمت له كتاب والدي (تاريخ الأردن في القرن العشرين) فشكرني وتذكر دولته اني أهديته الكتب الأخرى التي صدرت بعد وفاة والدنا وعددها احد عشر حين استقبلني وشقيقي يوسف في رئاسة الوزراء.
ومؤخرا، حين هاتفت النائب جميل النمري لأمر لا أذكره، اخبرني انه في زيارة لوالدته في المفرق فسلمت عليها بالهاتف وسمعت صوتها الندي الذي أعاد للقلب رحيق أيام خوال قضيتها العب مع شقيقها صديقي توفيق الهلال النمري. قالت بطيبة أهالي أيام زمان: «سقا الله تلك الأيام».
(issamm50@yahoo.com)
الرأي