مبادرة سمو الشيخ حمدان بن زايد حول المسؤولية الاجتماعية للشركات، والتي نشرت تفاصيلها الأسبوع الماضي تفتح الباب على مصراعيه على سؤال مسؤولية الشركات بشكل عام والأسس الموضوعية التي يجب أن يضعها رؤساء ومديرو الشركات عند التخطيط لدور مسؤول تجاه مجتمعاتهم ودولهم.
وابتداء تجدر الإشارة إلى حقيقة مهمة نحب دائما نحن العاملين في مجال الاتصالات التسويقية التذكير بها، هي أن مسؤولية الشركات في الواقع تعبير عن الموقع الأخلاقي Ethical Positioning للشركات المعنية. لذلك فالأمر يتعدى مجرد الصدقة والعمل الخيري إلى آفاق أرحب ترتبط بتكوين انطباع لدى الجمهور، والمتعاملين مع الشركة، ومؤسسات الدولة أن هذه الشركة، أي شركة، هي شركة منتمية وملتزمة بالمصلحة العامة وليس فقط بزيادة حصة المساهمين من الأرباح..
ثمة تعريفات عديدة لمسؤولية الشركات، والمسؤولية الاجتماعية على وجه الخصوص، لكن أبسطها هو المقارنة مع فطرة الانتماء عند الأفراد... الشركة في التعريف القانوني هي شخص طبيعي، والمسؤولية الاجتماعية هي إحدى الأدوات التي يعبر بها هذا الشخص الطبيعي عن انتمائه.
أما في لغة الأعمال، فالمقصود هو أن تلائم الشركات قيمها وسلوكها وطريقة ممارستها للأعمال مع توقعات واحتياجات قطاعات الجمهور المستهدفة stakeholders، ونحن هنا لا نتحدث عن الزبائن والمستثمرين فحسب، وإنما نتحدث أيضًا عن الموظفين والموردين والمجتمع بإطاره العام وفئاته الخاصة (كالمسنين مثلا) والنظام العام للبلد وواقعه التشريعي ومجموعات المصالح العامة (مثل جمعيات رعاية فئات اجتماعية معينة) وما إلى ذلك.
هذا من حيث الاستهداف، لكن من حيث التطبيق اعتادت قطاعات الأعمال المختلفة على تقسيم مسؤوليتها المؤسساتية إلى أربع قطاعات متوازية، وهي المسؤولية الاجتماعية Social Responsibility (ولا تشمل التبرعات الخيرية أو الصدقات أو الزكاة عن استثمارات الشركة، فهذه كلها تمثل سلوكا نبيلا يستحق الشكر لكنه لا يصنف في إطار المسؤولية الاجتماعية)، ثم هنالك المسؤولية تجاه البيئة Environmental Resonsibility ، والتنمية المستدامة Sustainable Development ، وأخيرا المسؤولية تجاه الموظفين والمتعاملين والموردين والتي تختصر عادة بالتعبير الذي يفضل كثير من مديرينا نسيانه؛ ألا وهو: الإدارة الرشيدة Good governance.
عن المسؤولية الاجتماعية
دعونا نتحدث بشيء من التفصيل العملي: فالمسؤولية الاجتماعية عنوان عريض يمكن لمن يفكر خارج الصندوق أن يجد الكثير من التطبيقات ليضعها تحته... ماذا عن بناء مدرسة في منطقة نائية، أو تطوير برنامج تدريبي للمصابين بمرض التوحد، أو تخصيص نسبة من وظائف الشركة للأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة، أو تقديم برنامج منح جامعية غير مشروط. عفوا، هذا أفكار جميلة ونشجعكم عليها، لكنها تبقى داخل الصندوق! لاستكمالها، تحركوا خطوتين خارج الصندوق وفكروا ثانية! ستجدون، مثلا، أن هذه المدرسة التي بنيتم في المنطقة النائية ستحتوي صفوفا مهنية مرتبطة بالحاجات الوظيفية إما للمنطقة أو للشركة تتيح لمن لا يذهب للتعليم الجامعي الحصول على عمل شريف عند تخرجه، وربما تحتوي مختبرا متقدما في الحوسبة ومكتبة ثرية وتأهيلا عاليا للمعلمين الملتزمين بالعمل فيها. ولكم إذا جاء عضو مجلس إدارة بخيل يعترض على هذا التبذير، مثلا، أن تذكروا له في الجواب ما الذي يمكن أن يعنيه أن يجلس أب في مجلس ما متفاخرا بأن ابنه يدرس في مدرسة الشركة الفلانية! قيمة مضافة، أليس كذلك؟
وفي مجتمعات ذات طابع استهلاكي تدويري مثل مجتمعاتنا، لكم أن تتخيلوا أفكارا بسيطة مثل: صندوق لتجميع الهواتف النقالة التي انتهت موضتها (يعني بعمر أربع شهور فما يزيد!)، ثم تقديم أسعار بيعها لصندوق تمولونه يوفر تمويلا محدودا Microfinance لأسر متعففة تبدأ به مشروعا صغيرا! أليست هكذا فكرة جميلة تساهم فيها الشركة وموظفوها في إشعال شمعة بدلا من لعن الظلام!
وبعيدا عن الأموال، إذا أدخلنا المسؤولية الاجتماعية إلى العمليات التشغيلية للشركات، فإن علينا أن نتذكر حالات أبسط، مثل وضع مداخل خاصة للأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة في مداخل المباني السكنية ومواقفها! (هل شاهدتم أيا منها مؤخرا يا رؤساء الشركات العقارية؟) ما رأيكم بأن تحتوي المباني والمجمعات السكنية الكبرى والشركات العملاقة حضانات نهارية للأطفال، تماما مثلما تحتوي الجيم والمسبح!
حسنا، أنا لا أعطي دروسا في التسويق هنا، ولكن من بدهيات أي إستراتيجية تسويقية لكل شركة ذكية التفكير للأمام والتخطيط أميالا حتى وإن كانت الشركة تسير بسرعة السلحفاة، فكيف إذا كانت كثير من شركاتنا تسير بسرعة الأرنب، وما قصة السلحفاة والأرنب عنكم ببعيد.
لكن لماذا لا تدخل الأنشطة الخيرية في مجال المسؤولية الاجتماعية؟ أبسط الردود يتمثل في الواجب والتبرع، فالمسؤولية الاجتماعية واجب والأنشطة الخيرية مبادرة، والمسؤولية الاجتماعية استمرارية وليست تبرعا منقطعا! وإذا أردنا أن نستخدم لغة مديرينا، فالمسؤولية الاجتماعية مشاركة، بينما الأنشطة الخيرية عطاء! لكن هذا ليس كل شيء!
الواقع أننا في الوقت الذي نشجع فيه الشركات على دعم الأنشطة الخيرية، نسجل أن مجتمعاتنا (مثل بقية المجتمعات) لا تتقبل ربط الأنشطة الخيرية (وخصوصا ما يتصل منها بالصدقات وفريضة الزكاة) بالجدوى التجارية. وهذا أمر محق. أما المسؤولية الاجتماعية فإن إحدى ميزاتها أنها تستخدم لرفع سوية سمعة الشركة وعلامتها التجارية، من خلال إضافة البعد الأخلاقي لهذه السمعة. وأختلف هنا اختلافا كبيرا مع الذين يقترحون عدم تغطية أنشطة المسؤولية الاجتماعية في وسائل الإعلام. بل على العكس تماما، إنني أشجع الشركات ووسائل الإعلام كذلك على إيلاء هذه الأنشطة أهمية إعلامية لأن ذلك سيساعد على المدى البعيد في تأصيل الصورة وتشجيع الشركات المترددة على طرح مبادرات أخرى في السياق ذاته، ولا ضير بعد ذلك أن استفادت الشركة المعنية سمعة طيبة.
الصداقة مع البيئة
مسؤولية الشركات تجاه البيئة أمر تغفل عنه كثير من شركاتنا وخاصة تلك التي لا تعمل في مجال التصنيع، والنتيجة أشياء كثيرة مضرة بالبيئة، مثل السيارات عالية الاستهلاك للوقود، والإسراف في استخدام الورق والإضاءة بغير مبرر، وصولا إلى عدم احترام الضوابط البيئية في المنشآت والمباني وما إلى ذلك. وفي حالة التصنيع، يمكننا إضافة الكثير عن الدخان المنبعث من المصانع والمخلفات الصناعية وما إلى ذلك. أدرك أن جزءا كبيرا من هذا الكلام يتداخل مع الشق القانوني والانضباط العام، ولذلك تؤسس بعض الشركات أقساما خاصا للانضباط مع التعليمات القانونية Regulatory compliance يكون من بين مهامها العديدة التنبيه على أي مخالفات بيئية عامة أو سلوكيات يومية ضارة بالبيئة. وسأستفز موظفينا بمثال بسيط: ها أنت انتهيت من قراءة تقرير طبعه زميلك، ما رأيك بدلا من إتلافه أن تستخدمه لاستقبال رسالة الفاكس القادمة... فقط فكر في كم شجرة ستنقذ لو قام كل من في شركتك بإعادة استخدام الأوراق المطبوعة على وجه واحد... أو بدلا من ذلك، طباعة تقاريرك على الوجهين! أما أنتم يا رؤساء مجالس الإدارة فما رأيكم في سيارات أقل استهلاكا للبنزين؟
التنمية المستدامة
الفكرة بسيطة.. فالتنمية المستدامة (أو استمرارية النمو) تحتاج إلى التزام قابل للتطبيق، وهذا ما يمكن تطبيقه من خلال وضع سياسة مؤسسية واضحة وطويلة الأمد تلتزم فيها الشركة بتخصيص نسبة مئوية (وليس رقما مقطوعا!) من مواردها لعناصر مسؤولية الشركات التي نتحدث عنها، اجتماعيا وبيئيا وغير ذلك. المهم أن تكون هذه السياسة واضحة، وقابلة للتطبيق ومعلنة لجميع الأطراف بحيث يمكن متابعتها والاستمرار في تنفيذ بنودها، حتى لو تغيرت الإدارة. ولإغاظتكم أكثر، أقول: تذكروا أن استمرار شركتكم في النمو والتطور هو جزء من هذا الالتزام المطلوب بالتنمية المستدامة.
الإدارة الرشيدة
هذه العبارة هي أكثر العبارات إثارة لأعصاب كثير من المديرين: هل تقصد أن هذه الشركة التي ورثتها كابرا عن كابر لا أستطيع أن أطرد منها موظفا لا يعجبني شكله؟ عفوا يا سيدي، تستطيع، فتلك مشكلة قانونية أكثر منها أخلاقية! لكن العدل ليس مطلوبا من القضاة دون غيرهم، والإنصاف ليس من صفات الحكومات من دون سواها! مديرو الشركات المتحضرون والناضجون يجمعون إلى صفات النجاح التجاري صفات النجاح الإداري، والعدل والإنصاف في مقدمتها!
لكن الإدارة الرشيدة تتجاوز بأبعاد فكرة فصل موظف من عدمها! إنها تعني بناء ونسج العلاقات بين الإدارة وموظفيها في مختلف مواقع العمل بشكل نبيل وخلوق ومتمدن وشفاف، وقبل ذلك وبعده، بشكل مثمر يصب في صالح العملية الإنتاجية. والإدارة الرشيدة، مع أنها التعبير الأوسع عن مسؤولية الشركات تجاه موظفيها وشركائها، إلا أنها تحتاج في تطبيقها إلى أكثر من فرمان إداري.
هنا تظهر على المسرح قضية اسمها الاتصالات الداخلية (أو كما يسميها البعض: العلاقات العامة الداخلية) Internal Communications ولتبسيط الصورة أستأذنكم بمثل بسيط: تذكرون مجلة الحائط، تخيلوا لو كانت كل علاقاتكم مع موظفيكم عبارة عن فرمانات تعلق على مجلة الحائط، ثم اسألوا أنفسكم، لو تحدث واحد من موظفيكم عن شركته في مجلس عام، ترى ماذا سيقول. الاتصالات الداخلية هي الأداة التي تستكمل بها الإدارة العليا متطلبات الانتقال إلى الإدارة الرشيدة، لكنها لا تحل محلها. وهي عبارة عن عملية متواصلة، فكرة في أن ترسل فرمانات على شكل رسائل ودودة عبر البريد الإلكتروني، فكر في اللغة: (أخي الموظف) بدلا من (على جميع الموظفين).. فكر في أنك تسوق نفسك كمدير لموظفيك.. وتذكر أن جزءا كبيرا من الإدارة الرشيدة يكمن في بناء علاقة ثقة متبادلة مع موظفيك.. قديما قالوا: أحب الكل تحظ بالكل، ويبدو أن كثيرا من المديرين اليوم يحتاجون إلى هذا المثل.
ثم ماذا؟
مسؤولية الشركات بفروعها المختلفة دليل عملي على الانتماء.. أدرك أن هذه عبارة إنشائية، لكنها لمن يريد أن يعمل تحفظ في الأعمال لا في الأقوال!
...............
جهاد صعيليك: الرئيس التنفيذي للتسويق والاتصالات، انفنتف ماركتنغ سوليوشنز.