المنسلخون عن ثقافتهم ( اللي بيخلع ثوبه بيعرى )
12-08-2008 03:00 AM
يواجهني كل يوم في جامعتي العزيزة التي اكمل فيها دراستي العليا ، عدة مواقف تثير الدهشة ، وتدعو الى الاستغراق فيما نحن فيه من ضياع وغربة ، ويعمل على توريط العقل بعصف ذهني يغدق في التفكير والتحليل لواقع مايجري حولنا ، ويعمل على تفسير التحولات الاجتماعية والتوعوية التي بدأت تلقي بظلالها المرير على واقعنا الاجتماعي والتربوي ، وتتسرب الى وعينا الباطن المحكوم بماضينا وتراثنا وعقلنا المعرفي المتراكم .
وحيث انني وبحكم دراستي التقي بالعديد من الطلاب من مختلف المستويات العلمية والاجتماعية وغيرها ، فانن اتعرض للكثير من المواقف ، المتباينة والدروس اللامنهجية في علم الاجتماع ، والسلوك الاجتماعي ، واحاول احيانا دراسة او تفسير مااتعرض له ولو بيني وبين نفسي .
ومن هذه المواقف ، انني تعرفت على احد الطلبة الجدد والذي ينحدر من احدى القرى الجميلة والبعيدة عن العاصمة ، وقد اخذ هذا الطالب ، يسرد لي بفخر انه انتقل الى عمان مع والده اثر بيعه لأراضيه في تلك القرية البعيدة ، وانه يعمل على قطع كل الروابط التي تربطه بجذورة في قريته تلك ، مما دفعني ان اذّكر هذا الشاب اليافع وبكل مرة التقيه وباسلوب المزاح المخلوط بالعتب بانه من القرية الفلانية ، فيستشيط غضبا ويجيبني بالانكار وبانه اصبح من عمان ولا تربطه بتلك القرية اية صله .
ان مثل هؤلاء الكثيرون الذين يتخلون ببساطة عن تراث اجدادهم وعن روابطهم الثقافية والتراثية والتاريخية ، لايستوعبون قيمة مايكتنزه البعد المكاني والثقافي والاجتماعي الاصيل للقرية الاردنية ، حتى اتى الوقت الذي اصبح الواحد منهم يتنكر لقريته بعد هجره لها بايام معدودة ، حيث تناسى ذكريات الحي العتيق والنبع الصافي والوادي الاخضر ، تلك الاماكن التي تختزل النقاء والصفاء والاصالة بكل مافيها من قيم ومعايير اجتماعية واخلاقية يصعب تعويضها او اغفال مكنونها في نفوسنا ، ودور تلك الكعاني والقيم في تشكيل سريرتنا البيضاء وعفويتنا البريئة التي بنيناها منذ ايام طفولتنا وسنين عمرنا الجميل .
يقول لي هذا الطالب انني لا اود ان اتذكر ذلك الماضي لانني انا الان في عمان واصبحت من ابناء احدى المناطق الراقية هنا . ويضيف انه غير خجل من التنصل من ماضيه وتراثه واصله ، مقابل ان يعيش حياته الجديدة المرفهة . ولقد متناسيا هذا الفتى ان سماته القروية ، ولفحة الشمس على وجهه ولكنة لسانه العتيق لايمكن ان تتخلى عنه بسهولة .
ان هذا الانسلاخ حقيقة لايفاجئنى ، بقدر مايستوقفني للحظات ، لانه لايكاد يساوي شيئا بجانب الانسلاخ الكلي عن ثقافة العقل المعرفي والتراكم الثقافي الاجتماعي ، الذي يشكل ماضينا الكلي وثقافة امتنا . فالفتى الذي ارتضى على نفسه الانسلاخ عن الماضي القريب والتراث القروي والبيئة المحاذية ، يملك الاستعداد التام للتخلي عن مجمل تراث امته ، وانتمائه الحضاري ، وحتى عن عقله المعرفي المتراكم الذي لايستطيع ان يخفيه الى الابد ، لانه مزروع في حنايا عقله الباطن .
وانني لعلى يقين بان المنسلخين عن ثقافاتهم وتراث امتهم والذين يتشدقون ليلا نهارا بمزايا ومظاهر الحضارات الاخرى ، هم في البدء كانوا منسلخين عن تراثهم القريب ، وبعدهم الاجتماعي والبيئي المحاذي ، لان هؤلاء لديهم الاستعداد الذاتي للهروب من جلودهم وارتداء جلود غيرهم . علما بان هذه الجلود الجديدة سوف تتسبب لهم بالالتهابات والامراض الاجتماعية والمعرفية ، لان اي جسم اصيل لايقبل العضو الغريب عنه ويقاومه الى ان يلفظه . وسيعرف هؤلاء المنسلخين والمتمايزين بجلود غيرهم ، انهم في يوم من الايام سيلفظون الى حديقة امتهم الخلفية لايراهم فيها ، الا المتخلفون من امتهم . والمتخاذلون من ابناءها .