مهما تكن تفاصيل الجريمة التي تعرض لها مكتب المخابرات في “ البقعة “ ومن يقف وراءها , لابد ان تظل عيوننا مفتوحة على مسألتين : الاولى الاصرار على مواجهة التطرف والعنف واغلاق الابواب التي يمكن ان يخرج منها , وتجريم كل الذين يغذونه بالافكار والممارسات والمقررات , اما المسالة الثانية فهي المزيد من الحذر مما يتغلغل داخل مجتمعنا وخارجه من “ انفجارات “ سواء باسم الارهاب او باسم الانتقام او تحت اية ذريعة اخرى , فنحن – بلا شك - في دائرة الخطر , والحروب التي اشتعلت حولنا يمكن ان تصل الينا بعض شراراتها , الامر الذي يستدعي الحيطة واليقظة والانتباه .
مع غياب الرواية الرسمية طيلة اكثر من 15 ساعة حول هوية “ منفذ “ العملية , اتجهت انظار المحللين الى داعش وذئابها المنفردة , كانت الاسئلة ملحة فيما اذا كانت الخلية الارهابية التي تم ضبطها في مدينة اربد قبل نحو اربعة شهور لها علاقة بما حدت في البقعة , او فيما اذا كانت تهديدات العدناني التي دعا فيها قبل ثلاثة اسابيع الى تنفيذ عمليات خارج اراضي التنظيم بدأت فعلا , ومن الاردن , لاسيما ان الاردن موجود ضمن قائمة اهداف هذا التنظيم , امتدت الاسئلة ايضا نحو اختيار التوقيت حيث اليوم الاول من شهر رمضان الفضيل , وحول “ المكان “ الذي يقع على تخوم اكبر المخيمات الفلسطينية , والرسالة التي اراد منفذ(وا) العملية توجيهها للدولة وللمجتمع ايضا .
سياق هذه التحليلات والتوقعات كان مفهوما لاعتبارات متعددة , اولها ما ورد في التصريح الرسمي الاول حول قيام “ ارهابيين “ بتنفيذ الهجوم على المقر الامني , وثانيا ما حملته العملية من مفاجأة على صعيد تحديد الهدف وطريقة التنفيذ , الامر الذي لا يمكن صرفه الا في اتجاه وجود خلية ارهابية لديها امكانيات للتخطيط والتنفيذ , اما الاعتبار الثالث فهو ما يحدث من تطورات سواء تلك التي تتعلق بمواقف الاردن من التنظيمات الارهابية ( داعش تحديدا ) وحربه المعلنة عليها , او الاخرى التي تتعلق بما يواجههة التنظيم من ضغوطات في سوريا والعراق , الامر الذي يرجح فرضية تصدير “ عملياته “ الارهابية للخارج , وللاردن بشكل خاص .
في منتصف ليلة امس الاول , تم الاعلان بشكل رسمي عن القاء القبض على احد “ منفذي “ الجريمة , واشير الى انها “ عملية منفردة “ وبالتالي فهمت الرواية الجديدة في سياق اخر , فلربما تكون العملية انتقامية , او انها لا علاقة لها بالذئاب المنفردة , ومع غياب التفاصيل الكاملة التي يفترض ان تكشف عنها التحقيقات فانه من المبكر ترجيح اي سيناريو على الاخر .
العملية , في تقديري ارهابية بامتياز , والجهة التي تقف وراءها ليست بعيدة عن داعش واخواتها , حتى لو كان الامر لم يصدر من هناك , على اعتبار ان استراتيجية هذه التنظيمات تعتمد على “ اللامركزية “ خلافا لاستراتيجية القاعدة , وبالتالي فان الانفرادية هنا لا تنزع عنها صفة الارهابية , وانما لا بد ان تفتح عيوننا على فهم مختلف التطورات التي مرت بها التنظيمات الارهابية , خاصة بعد انحسار اعتمادها على التمدد الجغرافي لحساب التمدد الديموغرافي .
حين ندقق فيما حدث , على اختلاف الروايات والتحليلات , نجد ان العملية فاجأتنا وصدمتنا , ( راح ضحيتها 5 شهداء من ابنائنا الابرار ) صحيح اننا كنا نتوقع ان تمتد الينا مثل هذه الايدي الاجرامية لكننا لم نتوقع ان يكون الهدف “ مبنى “ امني محصن , نجد ثانيا ان اختيار المكان كان “ خبيثا “ وينسجم مع ممارسات التنظيمات الارهابية “ بالعبث “ بالمكونات “ الهوياتية , لكن لحسن حظنا ان ردود مجتمعنا جاءت في عكس الاتجاه المقصود , لقد نضج هذا المجتمع بما يكفي لتجاوز الثنائيات القاتلة , والتمسك بالوحدة الوطنية , واعتبارها مقدسة مهما كانت الظروف .
نجد ثالثا ان المقاربة التي اعتمدناها في مواجهة التطرف والارهاب , كانت ناجحة على امتداد السنوات الماضية , لكنها بحاجة الى تطوير ، خاصة في مجال المزاوجة بين خيارين الردع والاستيعاب , ليس فقط امنيا , ولكن سياسيا واجتماعيا وفكريا ايضا , هذا يحتاج الى تفصيل , وكنت قد اشرت اليه في ورقة عمل قدمتها حول المقاربة الاردنية لمواجهة التطرف والارهاب في المؤتمر الذي نظمته فريدريش ابرت قبل ايام , قلت: انه لا يمكن ان نواجه هذه الظاهرة الا اذا اجبنا على سؤال مركزي وهو: لماذا اصبح مجتمعنا منتجا ومصدرا للفكر المتطرف , وهل يمكن ان يبقى كذلك ام اننا سنتفاجأ بوجود “ حواضن “ اجتماعية له , ترى هل جاءت هذه العملية الاخيرة لكي تنبهنا لهذه الحقيقة ام ان الوقت ما زال مبكرا للحكم على ذلك ؟ لا ادري.
الدستور